قصة سلمان الفارسي

قصة سلمان الفارسي

تكاد قصة سلمان الفارسي تقترب من القصص الملحمية التي كانت تُكتب في كتب الأساطير قديمًا، قصة الباحث عن الحقيقة، ذلك الرجل الذي لم يهدأ ولم يهنأ حتى وصل إلى مُبتغاه، حتى وصل إلى الحقيقة والطمأنينة التامة.

من سلمان الفارسي؟

سلمان الفارسي هو أحد صلى الله عليه وسلم المقربين، والذين شهد لهم النبي بالصلاح في حياتهم؛ بل إن سلمان نال شرفًا لم ينله أحد من الصحابة، إذ نسبه رسول الله إلى آل البيت بقوله صلى الله عليه وسلم “سلمان منا أهل البيت”. سلمان – كما هو واضح من اسمه – فارسي الأصل، طاف بالشام في رحلة طويلة حتى وصل إلى يثرب، وهو أول من أسلم من الفرس، وصحب النبي في جميع المشاهد بدءًا من غزوة الأحزاب في العام الخامس الهجري، وهو الذي أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق قائلًا: “يا رسول الله كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا”، وكان الخندق أحد أسباب النصر القوية للمسلمين في هذه الغزوة.

قصة سلمان الفارسي

تبدأ القصة من أصفهان، وتحديدًا في قرية جي من مدينة رامهرمز أو رامز. في هذه القرية نشأ سلمان لأب غني يعمل بالتجارة، يملك الكثير من المال، ولا يملك من الدنيا من هو أحب إليه من ولده: سلمان. كان والد سلمان مجوسيًّا، فنشأ سلمان على المجوسية وكان في المعبد يعمل على رعاية النار، فيظل قاطنًا عليها لا يتركها تخبو ساعة.

كان والده يخشى عليه كثيرًا، حتى أنه كان يحبسه في المنزل كثيرًا كالجارية الصغيرة؛ إلا إنه ذات يوم تعذر عليه متابعة أحد ضياعه فطلب من ولده سلمان أن يقضي له بعض الحاجات في تلك الضيعة، وأوصاه ألا يغيب عنه كثيرًا حتى لا يقلق عليه، فقال له:”لا تحتبس علي، فإنك إن احتبست علي كنت أهم إلي من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري”. فذهب سلمان لتلبية طلب والده، غير عالم بأن هذه الخطوة ستكون سببًا في تغيير حياته تغييرًا جذريًّا، وإلى الأبد.

بداية التغيير

بينما سلمان في طريقه إلى ضيعة أبيه؛ إذ مر بكنيسة من كنائس النصارى، فسمع أصوات صلواتهم، فلفتت انتباهه. دخل إلى الكنيسة وسألهم عما يفعلون، فأخبروه عن دينهم وعبادتهم، فأعجبته. قال في نفسه: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، ثم سألهم عن أصل هذا الدين، فقالوا له: بالشام. وظل معهم في الكنيسة حتى حلّ عليه المساء. بالطبع لم يفعل شيئًا مما طلبه منه والده، وعاد إلى المنزل ليجد أباه قلقًا ينتظره على أحر من الجمر، وقد بعث في أثره من يسأل عنه ويطلبه.

أخبر سلمان والده عن الدين الجديد، وأنه اعتنقه، ودعاه إلى اعتناقه بالمثل، فرفض الأب بشدة، وعامل سلمان بقسوة، فربطه بالقيود الثقيلة في قدمه، وحبسه في بيته ليمنع عنه مداومة الذهاب للنصارى في كنيستهم مرة أخرى.

وبينما هو في قيده، أرسل سلمان إلى أصحابه في الكنيسة يطلب منهم أن يخبروه إذا قدم عليهم أحد من الشام، فلما وصل وفد من الشام، أخبروا سلمان، فطلب منهم أن يخبروه إذا قضوا حوائجهم في بلده، وقرروا العودة إلى الشام مرة أخرى. بالفعل، انتهى القوم من قضاء حوائجهم واستعدوا للعودة، فأرسل النصارى إلى سلمان بالخبر، فتحايل وتخلص من قيده، ورحل معهم إلى الشام.

قد يهمك هذا المقال:   المحافظة على الصلاة

قصة سلمان الفارسي في الشام

في الشام سأل سلمان الفارسي عن أعلم الناس بهذا الدين، فدلّوه على أسقف الكنيسة. فذهب إليه وطلب منه مرافقته وخدمته والتعلم منه وعبادة الله معه، فوافق الأسقف.

يروي عنه سلمان أنه كان رجلَ سوء، يأمر الناس بالمعروف ولا يأتيه، وينهاهم عن المنكر ويأتيه. فكان يجمع من صدقات الناس الأموال الكثيرة ويكتنزها لنفسه، حتى أنه ملأ سبع قلال من الذهب من أموال الصدقات وحدها؛ كرهه سلمان بشدة، وكره صنيعه؛ ولكنه ظل معه لأنه لا يدري ماذا يفعل إذا تركه. فلما مات، وحضر الناس ليدفنوه، أخبرهم سلمان بأمره، ودلّهم على موضع قلال الذهب السبع.

فلما رأى الناس قلال الذهب، صدّقوا سلمان وعزموا ألا يدفنوا الأسقف المنافق أبدًا؛ بل صلبوا جثته ورموها بالحجارة.

ثم جاءوا من بعده برجل آخر، التمسوا فيه الصلاح والتقوى. يروي سلمان عن هذا الرجل عكس ما رواه عن سلفه الفاسد، فيقر أنه ما رأى من هو أشد منه تقوى وصلاحًا وورعًا وزهدًا في الدنيا. فصحبه سلمان حتى حضرته الوفاة فقال له: “يا فلان، قد حضرك ما ترى من أمر الله، وإني والله ما أحببت شيئًا قط حبك، فماذا تأمرني وإلى من توصيني؟”، فنصحه الراهب الزاهد بالذهاب إلى رجل بالموصل في العراق، فإنه على مثل حاله من الدين والإيمان، ثم مات الراهب، فلما انتهت مراسم دفنه، ارتحل سلمان إلى الموصل.

الموصل ونصيبين وعمورية

وصل سلمان إلى العراق، وبحث عن الراهب المقصود حتى وصل إليه، فعرّفه بنفسه وطلب مصاحبته، فرحب به الراهب، وهيأ له أمر البقاء معه، ووجده سلمان على القدر نفسه من الزهد والورع الذي كان عليه صاحبه الراحل، فأحبه حبًّا كثيرًا، وظل ملازمًا له حتى حضرته الوفاة.

وكما فعل مع صاحبه الأول حينما حضرته الوفاة، فعل مع صاحبه الثاني وطلب منه النصح بشأن من يصاحبه من بعده. فنصحه الراهب وهو على فراش الموت بالذهاب إلى راهب آخر في نصيبين في . بعد وفاة صاحبه، دفنه سلمان وارتحل إلى نصيبين.

في نصيبين تعرف سلمان على الراهب الجديد، وأقام معه على الحال نفسه من العلم والزهد والتقوى حتى حضرته الوفاة، فطلب منه مثلما طلب من أصحابه السابقين، فنصحه الراهب المحتضر بالذهاب إلى راهب في عمورية بتركيا، فإنه على الحال نفسه من العلم والإيمان والزهد. فلما مات، ارتحل سلمان إلى عمورية.

في عمورية وجد سلمان الراهب على مثل حال أصحابه من الزهد والتقوى، فصاحبه حتى الوفاة. وبجانب مصاحبة العالم النصراني، عمل سلمان وتكسب، وأصبح له مال وبقيرات. فلما حضرت الراهبَ الوفاةُ، طلب منه سلمان أن ينصحه بالذهاب إلى راهب آخر لمصاحبته. فقال له الراهب: “أي بني، والله ما أعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكن قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى، بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل؛ فإنه قد أظلك زمانه”.

قد يهمك هذا المقال:   حكم تارك الصلاة عند الائمة الاربعة

فظل سلمان مع صاحبه حتى وافته المنية، ثم قرر الرحيل إلى بحثًا عن مهجر النبي المرتقب صلى الله عليه وسلم.

أتى بعض التجار العرب من قبيلة كلب إلى عمورية، فطلب منهم سلمان مصاحبتهم إلى الجزيرة مقابل ماله وبقراته، فوافقوا، غير أنهم في وادي القرى غدروا به وباعوه كعبد إلى رجل يهودي.

مع النبي صلى الله عليه وسلم

على الرغم من معاناة الرق، إلا إن سلمان استبشر خيرًا حينما رأى في وادي القرى وظن أن هذه هي مهجر النبي؛ ولكن بعد فترة جاء رجل من يهود بني قريظة، فاشتراه من صاحبه، وصحبه إلى يثرب. فما إن رآها سلمان، حتى عرف أنها هي البلدة التي أخبره عنها صاحبه قبل أن يموت أنها مهجر نبي هذا الزمان.

ظل سلمان يعمل في الرق سنوات عديدة، لا يدري شيئًا عن الأحداث القاسية التي يمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة، ولا يعلم شيئًا عن هجرتهم حتى وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء، فجاء ابن عم لصاحب سلمان يخبره بمقدم رجل إلى يلتف حوله الناس، ويزعمون أنه نبي. كان سلمان حينذاك فوق النخلة وسيده يجلس أسفلها في مجلسه. ما إن سمع هذه الكلمات حتى ارتعد وكاد أن يسقط من فوق النخلة، فنسي عمله، ونسي رقّه، ونسي ما هو فيه، ونزل من فوق النخلة مسرعًا، يسأل الرجل: ماذا قلت؟ ما هذا الخبر؟ فلكمه سيده بيده، ووبخه بشدة، وطلب منه العودة إلى عمله.

عاد سلمان إلى عمله، وذهنه يسترجع كلمات صاحبه – الراهب الأخيرة – قبل موته في وصف النبي صلى الله عليه وسلم:

  1. لا يأكل الصدقة.
  2. يأكل الهدية.
  3. بين كتفيه خاتم النبوة.

بعد دخوله إلى المدينة، عاد إليه سلمان ببعض الطعام مرة أخرى، وقال له: “إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية”، فشكره النبي صلى الله عليه وسلم وأكل منها وأكل معه أصحابه. فقال سلمان في نفسه: هذه الثانية.

ظهرت آيتان، وبقي أن يتعرف على خاتم النبوة بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف؟

الوصول إلى الحقيقة

ذات يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه يتبع جنازة. فانطلق سلمان يسير بينهم، يمعن النظر في ظهر رسول الله علّه يرى خاتم النبوة. فلاحظ النبي محاولات سلمان النظر في ظهره، فدعاه إلى القدوم، وحسر الرداء عن ظهره، فظهر خاتم النبوة، ورآه سلمان جليًّا في ظهره الشريف صلى الله عليه وسلم.

كانت تلك اللحظة في حياة سلمان أبلغ من أن تصفها كلمات. لقد شق المسير على الفارس حتى وصل إلى مبتغاه.

الآن يقف بين يديه نبي هذا الزمان، بشكله، واسمه، ووصفه، وعلاماته. هو هو كما وصفته كتب الأقدمين، وكما وصفه له صاحبه بدون ذرة واحدة من الشك.

فور أن أظهر النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة لسلمان، انكب سلمان عليه يقبل خاتم النبوة ويتحضن النبي ويبكي.
أعلن سلمان إسلامه بين يدي الحبيب، وعلم النبي قصته، وتعجب لها أشد العجب، فطلب من سلمان أن يرويها على أصحابه، ففعل.

سلمان في صحبة النبي

كان سلمان ما زال بعد في الرق، وكانت الأوضاع الاقتصادية للمسلمين في ذلك الوقت – بعد الهجرة مباشرة – في تعسر شديد بسبب مجيء من مكة، وإيواء الأنصار لهم بكل غال ونفيس. فلم تكن أوضاع المسلمين تسمح حينذاك بحلّ سلمان من رقه مرة واحدة، فاقترح عليه النبي مكاتبته بالعمل، ودعا الصحابة لمساعدته، وحينما غنم المسلمون من معاركهم أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنيمة ليفك رقه، فصار حرًّا، وكانت أول مشاركة له مع النبي في غزوة الأحزاب، وهو الذي أشار على النبي بحفر الخندق الذي كان سببًا في حماية المدينة والمسلمين، وسمُّيت الغزوة بغزوة الخندق لأجل هذا.

قد يهمك هذا المقال:   الدعاء المستجاب

أكمل سلمان مسيرته مع النبي، وحضر معه المشاهد كلها حتى رحل الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وهو يمدح سلمان، ويوصي به خيرًا قائلًا: “سلمان منا أهل البيت”.

مع الخلفاء الراشدين

ظل سلمان الصحابي المميز المقرب لدى جميع الصحابة، له وضعه وقدره، يحبه الجميع ويثنون عليه بما علموه عنه من صلاح وتقوى وورع وزهد في الدنيا، وإقبال على الله. فكان الخلفاء قد اقتطعوا له راتبًا، فكان ينفقه جميعًا في سبيل الله على الفقراء ويأكل من عمل يده.

شارك سلمان في فتوح العراق، وولاَّه عمر على المدائن، فكان يتجاهل راتبه كحاكم، ويأكل من كسب يده، وكان كريمًا يدعو الفقراء ليأكلوا معه مما رزقه الله. كان عمر بن الخطَّاب يحبه ويقدّره، وكان إذا قدم عليه سلمان، وكان عمر في أصحابه ينهض ويقول لهم: اخرجوا بنا نتلق سلمان. ومدحه علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع من مدحهم من الصحابة، ومدح علمه وزهده.

روى سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم 60 حديثًا، 4 منها في البخاري، و3 منها في مسلم. ظل سلمان على المدائن حتى خلافة عثمان بن عفان، ومات سنة 33 من الهجرة.

عمر سلمان الفارسي

من الأمور المحيرة والتي لم يثبت بها نص قطعي في السيرة، هي عمر سلمان الفارسي. فذهبت بعض الروايات إلى أن عمره قد بلغ 350 سنة، وقيل أن الأوثق هو أن عمره 250 سنة.

ولكن تلك الروايات يغيب عنها المنطق، فقد ورد ذكر مواقف كثيرة لسلمان الفارسي في السيرة، ولم يأتِ في إحداها – ولو مرة واحدة – أي ملاحظة عن عمره على أنه رجل مُعَمِّر، وبالتأكيد رجل هرم بهذا السن سيكون عمره مُلاحظًا عليه، ومحور حديث من الصحابة، أو حتى مثار ملاحظة عابرة، كما كان الحال مع دريد بن الصمة يوم حنين، وقد تجاوز المائة وخمسين عامًا وكانوا يحملونه في الهودج كالنساء. فكيف يُعقل أن يكون سلمان أكبر من دريد بن الصمة سنًّا، ويتحرك، ويعمل، ويسافر، ويحارب، ويشاهد المشاهد كلها مع النبي، ولا يبدو عليه أي أثر لهذا الكبر، بل هذا الهرم.

الأرجح من الأقوال أن عمره كان بين السبعين والثمانين، أو أنه قد تجاوز الثمانين بقليل. ويرجح هذا الرأي رواية زيارة سعد بن أبي وقاص له قبل موته، ومواساته بقوله: “ما يبكيك بعد ثمانين؟”. وهذا أرجح الآراء، ويتفق مع منطق الروايات وما ذُكِرَ عن قصة حياة سلمان. ولا يتعارض هذا مع بقاء سلمان مع الرهبان الخمسة في البلدان الأربعة التي زارها قبلاً (الشام، الموصل، نصيبين، وعمورية)، فقد ذهب إلى رهبان بلغ منهم العمر مبلغه، وشارفوا على الموت. فربما قضى مع كل واحد منهم بضعة أعوام. وبافتراض أنه غادر بلده وهو بعد في سنوات مراهقته الأولى، ففي أغلب الأحوال وصل إلى المدينة وهو دون الأربعين أو الخمسين، أو تجاوزها بقليل. وظل مع النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة حتى جاوز السبعين أو الثمانين على أرجح التفسيرات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *