قصيدة ابن سفر المريني يصف الاندلس

هو أبو الحسن محمد بن سفر، أحد أبرز الذين بزغوا في ، وُلد في “المرية”، وهي مدينة تقع شرقي الأندلس، حيث نشأ وتأثر بطبيعتها الخضباء فخرج معظم شعره يصف هذه الطبيعة ومحاسنها، حتى أنه بدا وكأن الأندلس أعظم بلاد الدنيا، وغيرها صحراء جرداء، وقال عنه المؤرخ المقري التلمساني في كتابه نفح الطيب، إنه “أحد الشُعراء المُحدثِين المُتقدّمين قدرًا، وكان الإحسان له عادة”.

ابن سفر يصف الاندلس في أبياته

نُسب إليه الكثير من الشعر الذي يحكي طبيعة الأندلس الغنّاء، والذي وصف به أنهارها وهضابها ووديانها..
يقول:


جئت الجزيرة والخليج يحفّها يشكو إليها كي تجيب حواره

شقّ النسيم عليه جيب قميصه فانساب من شطّيه يطلب ثاره

فتضاحكت ورق الحمام بدوحه هزءا فضمّ من الحياء إزاره

وهو في هذه الأبيات يحكي كيف أن الخليج يشكو جزيرة قرب طامعًا في القرب منها، فلما مزّق الهواء جيب صدره، أو بمعنى آخر أرشده لفتحة مصب جديدة، فانسابت المياه ما بين الشطين في طلب الثأر كناية عن حركة المد، فضحك الحمام الذي كان واقف فوق شجرة عظيمة فخجل الخليج وضم من حيائه إزاره كناية عن حركة الجذر.

كما أنه في أبيات بديعة أخرى، يُمعن في خياله الثري، ويصف نزهة لبعض الشباب داخل زورق يجري في نهر الوادي الكبير وهو نهر إشبيلية الرئيس، ويصف أيضًا وادي “المرية” موطن نشأته، فيقول:


اشرب على شدو الحمام فإنّه أشهى إلىّ من الغريض ومعبد

أتراه أطربه الخليج وقد رأى تصفيقه تحت الغصون الميّد

وكأنهنّ رواقص من فوقه و بها من الأزهار شبه مقلّد

قد يهمك هذا المقال:   ما هو النيزك

وهو في هذه الأبيات يجعل شدو حمام الأندلس على مسامعه أعظم من صوت مغنيي مكة والمدينة المشهورين في العصر الأموي؛ الغريض ومعبد، كما أن يحكي عن صوت مائها الجميل وغصون أشجارها الخضراء، ويشببها بأنها كالعقد الذي يطوّق جيد بالأزهار.
يقول أيضًا:


لو أبصرت عيناك زورق فتية يبدى لهم بهج السّرور مراحه

و قد استداروا تحت ظلّ شراعه كلّ يمدّ بكأس راح راحه

لحسبته خوف العواصف طائرا مدّ الحنان على بنيه جناحه

وهو هنا يحكي كيف أن حفة من الفتية تجمعوا في مركب شراعي تجري على صفحة مائه يتبادلون كؤوس الخمر، ثم يشبّهه في شدة ريحه بكأنه طائر عظيم يفرد جناحيه حول أولاده خوفًا عليهم من أي عاصفة مباغتة.

قصيدة الأندلس وشرحها

تُعد من أفضل ما كتب ابن سفر في وصف الأندلس، لذا اعتنى بها العلماء بفضل تشبيهاته الخلاّقة وتعبيراته الأخاذة التي تمس القلب وتخلب اللب وتسرق العين..
يقول:

فــي أرض أنـدلس تـلتذ نـعماء ولا يـفـارق فـيها الـقلب سـراء

يحكي ابن الأندلس كيف أن أرضه موطن النِعم كلها، حيث أنها المكان الذي لا يفارق بيها السرور قلبه أبدًا، من فرط ما طيباتها ونعيمها.

أنـهارها فـضة والـمسك تـربتها والـخز روضـتها والـدر حصباء

“الخزّ” هو الحرير، و”الحصباء” هي الأرض ذات الحصى، وفي هذا البيت يظهر مدى تعلق الشاعر بطبيعة الأندلس التي يصف أنهارها بأنها كالفضة اللامعة، وتربتها من المسك ذي الرائحة الطيبة، وحدائقها كالحرير الناعم، أم حصوات أرضها فهي كالدرر غالية الثمن، وهو بهذا يكاد يقترب من التشبيه بأنها كصفات الجنة كما جاء ذكرها في المرويات التاريخية.

ولـلـهواء بـها لـطف يـرق بـه مـن لا يـرق وتـبدو مـنه أهواء

وهنا يحكي كيف أن هواءها به تجعله يلين قلب أي شخص حتى ولو كانت طباعه غليظة وخشنة.

قد يهمك هذا المقال:   اليونان القديمة

لـيس الـنسيم الذي يهفو بها سحرا ولا انـتـشار لآلـي الـطل أنـداء

السحر هو آخر الليل، ولآلى مفردها لؤلؤة، أما الطّل فهو الندى.
وهو هنا يعتبر أن هواء الأندلس العليل الذي يخلب عقول كل من يتابعه، ليس قطعة من آخر الليل، ولا حتى انتشار الندى فيها لؤلؤ منثور، وهو هنا يصف بلدته بالضد، فكأنه يقول إن هذه الخدعة تحدث مع أي أحد يزور الأندلس لأول مرة.

وإنـمـا أرج الـنـد اسـتثار بـها فـي مـاء ورد فـطابت منه أرجاء

الأرج هو الرائحة الزكية، وهنا يقول الشاعر إن كيف أن هواءها الطيب رائحته جيدة دائمًا وأبدًا، حتى أنها قد تبدو لمن يشمّوه وكأنه ماء ورد.


وأيـن يـبلغ مـنها مـا أصـنفه؟ وكـيف يحوي الذي حازته إحصاء؟

وهنا يحكي ابن سفر عن شعوره بالقصور، ونضب عباراته الشعرية إن حاول وصف بلدته، معتبرًا أن محاسنها فاقت الوصف والقدرة على الإحصاء.

قد ميزت من جهات الأرض حين بدت فـريـدة وتـولـى مـيزها الـماء
دارت عـليها نـطاقا أبـحر خـفقت وجـدا بـها اذ تـبدت وهي حسناء

الميز هو الأمر الفريد الذي يفضّل الأندلس عن غيرها، والنطاق هو الحزام الذي يُشد به الوسط، أما الوجد فهو شدة الشوق.
وهنا يحكي الشاعر الموقع الفريد لبلاده، وكيف أن البحار التي تحيط بها تخفق حبًا وشوقًا لها، فيشبّه البحار بالإنسان العاشق الذي يخفق قلبه بشدة من فرط حبه لمعشوقته الحسناء، وهي كناية عن الأندلس.

لـذاك يـبسم فـيها الزهر من طرب والـطير يـشدو ولـلأغصان إصغاء

ويضيف أن الزهر يبتسم ضحكًا من فرط سعادته بوجوده في الأندلس، ولنفس السباب يغني الطير سعيدًا، بينما أغصان الشجر تصغي لهما في إعجاب.

فـيها خـلعت عـذاري ما بها عوض فـهي الرياض وكل الأرض صحراء

قد يهمك هذا المقال:   عاصمة فرنسا

ولا غرابة إن دخلت قلبك ما أن تستقر بها، فهي وحدها الجنان والرياض والحدائق، أما ما سواها فهي مجرد صحاري جرداء.

شعراء آخرون وصفوا الأندلس

فرضت طبيعة الأندلس وأقاليمها الفتية على شعرائها أن يمعنوا في وصفها من فرط محاسنها، كما أن حالة التطور العمراني والاجتماعي التي شهدتها جعلتهم يعتنون بوصف القصور وزخارفها وبِركها الفضية وأشكال الترف في الطعام والشراب بها، بالإضافة لمجالسها الأدبية والسياسية، واحتلت نساء الأندلس طبعًا الصدارة في الأشعار، وقرض فيها الكثيرون عشرات الأبيات تغزلاً وفتنة، نحو فيها نحو تقليد التراث الشرقي من أفكار وأساليب بيانية، فلم تكن الأندلس لحظة دخول المسلمين لها متعمقة في الثقافة الأوروبية، لذا كان من السهل عليها أن تتشرب ، وتسير على مبادئها في الشعر والزجل والقصة، وسرعان ما أصبح جزءًا منه أدمج فيه لاحقًا وأصبح كيانًا واحدًا.

ومن أشهر من كتبوا في جمال الأندلس: ابن زيدون صاحب النونية الشهيرة، وابن خفاجة الذي شبهها بالجنة في قوله:

يــا أهــل أندلـــس لله دركـــم مــاء وظل وأنهار وأشــــجار

مـا جنة الخلد إلا في دياركـم ولـــو تخيرت هذي كنت اختار

وأيضًا حمدة بنت زياد، وجعفر بن عثمان المصحفي، وأبو الحسن الجلياني، والذي يقول:
النهرُ سلَّ حُساما على قُدودِ الغُصون

ولــلنسـيمَ مـــجـــالُ والروضُ فيه اختيال

مُــدَتْ علــيه ظِــلالُ

وغيرهم الكثير، كما يقول الوزير بن الخمارة:

لاحت قُراها بين خضرةِ أيكها كالدر بين زبرجد مكنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *