الحضارة الإسلامية في الأندلس
تحتل حضارة الأندلس مكانةً بارزة ومرموقة في التراث الإسلامي ككل، كما تشتهر بالمواهب الخلاقة التي كان يتصف بها الأندلسيون في البناء والعمران والزخرفة؛ فمنذ عهد الفتح مع الدولة الأموية، مرورًا بتأسيس الإمارة ثم الخلافة الأموية، وصولًا إلى العهد المرابطي ثم العهد الموحدي.
وقد ظلَّ العمران الإسلامي الأندلسي أيقونةً حضارية منقطعة النظير وذات طابعٍ خاص. وقد مرَّ تشييد الحضارة الأندلسية الأموية بمرحلتين أساسيتين، هما:
- مرحلة الاقتباس من الحضارة الإسلامية المشرقية: وصلت إلى تأثيراتٌ حضارية من بلاد الشام والحجاز في زمن عبد الرحمن الداخل (الذي فرَّ من العباسيين في بغداد)، ثم فتح عبد الرحمن الثاني الباب على مصراعيه لولوج التأثيرات الحضارية من طوال فترة حكمه، ويُلاحَظ هذا الاقتباس في مختلف المنشآت المعمارية التي شُيِّدت منذ البداية، كما يظهر أيضًا في المجالين الفني والأدبي.
- مرحلة النبوغ الحضاري في الأندلس: لم تلبث الأمة الأندلسية أن نبغت في مجالات العلم والمعرفة والفكر والفنون والعمران؛ فغدت لحضارة الأندلس سماتٌ ومزايا خاصة بين مختلف الحضارات الإسلامية شرقًا وغربًا، ويظهر هذا التميز بجلاءٍ في الأشكال المعمارية التي تُعرَف أصلًا باسم المعمار الأندلسي، فلا يمكن أن تجد أشكال الزخرفة الموجودة في جامع قرطبة وقصر الحمراء إلا في الأندلس، كما أن الأندلسيين بلوروا أساليب التعاطي مع الفنون والآداب؛ فبرز الشعر الأندلسي، وظهر الطرب الأندلسي كوسيلةٍ جديدة لإلقاء ، مع إضفاء جمالية وذوق فني عليها.
أضحت الثقافة الأندلسية محيطةً وشاملة لمختلف فروع المعرفة من علمٍ وأدبٍ وموسيقى، على أن النبوغ الحضاري الأندلسي لم يبلغ ذروته إلا ابتداءً من القرن الخامس الهجري (نهاية دويلات الطوائف وبداية العهد المرابطي)، وكان التعليم قائمًا على الكتاتيب القرآنية والجامعات (جامعات قرطبة وطليطلة وإشبيلية). وتبعًا لازدهار العلوم، انتشرت المكتبات الخصوصية والعمومية وازدهر دور الوراقين (الكُتَّاب) في نسخ .
العمران الأندلسي
اطَّرد العمران بالأندلس المسلمة في حركة دائبة لا تنقطع، ولم يكد يُطل القرن الرابع الهجري حتى بلغت البلاد درجةً كبيرة من التحضر، حتى أن المسافر في الأندلس يمر خلال يومٍ واحد بأربع مدن على الأقل عدا القرى والحصون، وكمثال على ذلك، يقول الجغرافي ابن حوقل في كتابه (المسالك والممالك): “قرطبة هي أعظم مدينة بالأندلس، وليس بالمغرب لها عندي شبه ولا بالجزيرة والشام ومصر ما يدانيها في كثرة أهل، وسعة رقعة، وفسحة أسواق، ونظافة محال، وعمارة مساجد، وكثرة حمامات وفنادق”.
ارتفع النمو الديموغرافي في المدن الأندلسية بشكلٍ ملحوظ منذ القرن الرابع الهجري، وقد أورد هذا الأمر الكثير من المؤرخين والجغرافيين، أبرزهم أبو عبيد البكري والمقري وغيرهما الكثير، فيقول أبو عبيد البكري في كتابه (المُغْرِبُ في ذكر بلاد إفريقية والمَغْرِب): “… وقد ازدحم الخلق في قرطبة منذ أن أصبحت قاعدةً للمُلك؛ فكثرت حولها الأرباض (الضواحي)، حتى بلغ عددها واحدًا وعشرين ربضًا”.
ويذكر الدكتور دندش عصمت عبد اللطيف أنه خلال القرن الرابع الهجري امتد العمران حول قرطبة بتأسيس حاضرتين قريبتين منها، أولاهما بناها عبد الرحمن الناصر وأسماها الزَّهْرَاء، والثانية شيدها الحاجب المنصور وسمَّاها الزَّاهِرَة، ثم ملأ الناس المجال الموجود بين المدن الثلاث (قرطبة، الزهراء، الزاهرة) بالبنيان المزدحم، فيقول المقري في كتاب (نفح الطيب): “إن العمارة في مباني قرطبة والزهراء والزاهرة اتصلت إلى أن كان يُمشى فيها بضوء السُّرُجِ المتصلة عشرة أميال”. وتبقى حتى الآن محل جذبٍ للأنظار.
المجتمع الأندلسي
كان المجتمع الأندلسي في أول العهد الإسلامي يتألف من العرب والأمازيغ المغاربة والأندلسيين، ومع مضي الزمن انصهرت هذه العناصر واكتسب المجتمع وحدةً حضارية، واستحكمت بين فئاته أواصر الامتزاج والانسجام، إلا أنه ابتداءً من عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، دخلت عناصر جديدة إلى الأندلس (الصقالبة، أمازيغ زناتة، أمازيغ صنهاجة …)، الأمر الذي أحدث اختلالًا في كيان المجتمع الأندلسي ووحدته، لينفجر الصراع في نهاية المطاف بين المهاجرين الجدد وبين الأمة الأندلسية خلال مرحلة ضعف الحكم المركزي، لينتج من ذلك تفرق البلاد إلى طوائف، سينجم عنها تأسيس ما عُرِف تاريخيًّا باسم عصر “ملوك الطوائف”.
الاقتصاد الأندلسي
ازدهر في الأندلس بفضل تطوير أساليب الفلاحة ومهارة الصناع والتجار، فقد توافرت فيها كل العوامل المؤدية إلى الازدهار الاقتصادي، ما جعل الشعب الأندلسي يعيش في رخاء وثراء طيلة فترة الوجود الإسلامي بشبه جزيرة إيبيريا؛ إذ أقبلت كل الطوائف على العمل والإنتاج بنشاطٍ وحيوية، فقد عرفت الأندلس تنوعًا في ثروات أرضها على المستويين الزراعي والمعدني، كما استقر الفلاحون في قراهم منهمكين في خدمة أراضيهم بأساليب وتقنيات متطورة، أضف إلى ذلك نبوغ الصناع والحرفيين والتجار والمعماريين.
- المجال الزراعي:
طوَّر العرب و الأندلسيون أساليب الفلاحة والزراعة المسقية؛ فقد بنوا السدود والترع وحفروا الآبار منصِّبين عليها النواعير والآلات الرافعة للمياه إلى البساتين، كما أدخلوا مزروعاتٍ جديدة لأوروبا لأول مرة (الأرز، المشمش، الخوخ، الرمان، النخيل، قصب السكر، القطن، التوت، الزعفران …)، وكان الأندلسيون يُشبِّهون بساتينهم الغنَّاء بالجنان (جنة وِشْتَة، جنة العريف …). يقول الشريف الإدريسي في كتابه (نزهة المشتاق) عن مدينة ألمِرِيَّة: “… وكان بها من فواكه واديها الشيء الكثير الرخيص”. - المجال الصناعي:
اشتهرت الأندلس بنشاطها الصناعي؛ إذ برع الأندلسيون في الصناعات المختلفة (الدباغة، الصباغة، التعدين، نقش المعادن، المنسوجات، الورق، الزجاج، الخزف، الفسيفساء)، وقد ساعدهم على ذلك ما ذُكِر في غنى بالمعادن ووفرة المناجم، وقد توزعت الصناعات على المدن الأندلسية المختلفة، فاشتهرت كل منها بصناعةٍ معينة، فقد كانت مدينة طليطلة -على سبيل المثال لا الحصر- تضاهي مدينة دمشق في صناعة السيوف والأسلحة المنقوشة بالفضة والذهب، كما كانت مدينة ألمِرِيَّة رائدةً في صناعة السفن ومشهورة بصناعة المعادن أيضًا. - مجال التجارة:
تبعًا لازدهار الزراعة والصناعة بالأندلس، ازدهرت التجارة في أسواق المدن الأندلسية وأقاليمها، كما عمل الأندلسيون على التبادل التجاري مع الخارج؛ فبلغت منتجاتهم مختلف مناطق العالم الإسلامي غربًا وشرقًا، بل وصلت أيضًا إلى الهند والصين في أقصى الشرق، وهذا دليل على جودتها، فمن العسير وصول سلعة إلى أسواق الهند والصين واختراقها لطريق الحرير المشهور إلا إذا لقيت إقبالًا من طرف الناس في الأسواق، وقد ساعد وجود الأسطول البحري الأندلسي وأيضًا تأمين الطرق التجارية، علاوةً على سك العملة الأندلسية (منذ العهد الأموي في الأندلس) على ازدهار الحركة التجارية.
العلوم والفنون والآداب الأندلسية
ازدهرت الثقافة الأندلسية طيلة فترة الوجود الإسلامي، ولا غرو؛ فقد أسهمت الأندلس في إثراء العلوم والفنون والآداب، وذلك ببروز أعلامٍ نبغوا في مجالاتهم، إلى درجة أن سلاطين الدول التي تعاقبت على حكم الأندلس قرَّبوا العلماء والأدباء الأندلسيين وأدخلوهم إلى قصورهم، ومن بين هؤلاء: أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ بن باجة التجيبي، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد المالقي (ابن البيطار)، أبو عبد الله محمد بن محمد الإدريسي الهاشمي القرشي، أبو القاسم عباس بن فرناس بن ورداس التاكرني، أبو عبيد البكري، ابن الخطيب، أبو العلاء بن زهر، ابن عبدون، ابن خفاجة … (كتاب (التأثيرات الشرقية في الطب الأندلسي) للدكتورة نهاد عباس زينل).