نشأة فلسفة ما قبل سقراط
يُعدُّ ظهور الفلسفة والمدنية قبل سقراط والنشاط العقلي الكبير في تلك الفترة المبكرة من المسائل التاريخية المُحيِّرة التي يصعب تفسير سببها بدقة؛ وذلك لكون التحرر والانفتاح العقلي الحادث في هذه الفترة قد حدث على نحوٍ مفاجئ.
وبالرغم من أن آثار المدنية قد ظهرت بوضوحٍ في الحضارتَين الفرعونية والبابلية قبل ظهورها في بلاد ، إلا أن ازدهار هاتين الحضارتَين كان مقتصرًا على الحاجات العملية والمسائل الروحية، وراجعًا إلى خصوبة الأراضي الزراعية المجاورة لنهر النيل ونهرَي دجلة والفرات؛ فاختُرِعت في لأول مرة، ثم توجَّه اهتمام ذوي الأمر إلى الحياة الآخرة.
أما البابليون فقد اهتموا بالتنجيم والسحر، وتمكَّنوا من ملاحظة نوعٍ من التتابع في ظاهرة الكسوف الشمسي، بالإضافة إلى تقسيمهم الدائرة إلى 360 درجة، واليوم إلى 24 ساعة.
في حين لم يكُن في أي نوعٍ من الازدهار الواضح، فضلًا عن كون اليونان ذات طبيعةٍ جبلية، يصعب الاتصال البرِّي فيها بالرغم من وجود عدة وديانٍ خصبة تتخلَّلها.
أدت طبيعة الأراضي اليونانية إلى تقسيم الشعب إلى مجموعاتٍ تعيش في نواحٍ متفرقة، لكلٍّ منها عادات وأعراف وقوانين خاصة؛ مثل الإسبارطيين والأثينيين. ومع ازياد عدد الأفراد في منطقةٍ معينة، يلجأ بعض السكان إلى الملاحة والتنقُّل بين البلدان لعدم وجود موارد غذائية تكفي جميع الأفراد.
ووفقًا لذلك، يمكن تفسير ظهور المدنية وارتقائها في اليونان جزئيًّا، لما لعامل السفر من تأثيرٍ يساعد على توسيع الأفق العقلي وتبادل المعرفة، كما أن الاختلافات الكبيرة بين المواطنين في البلد الواحد يمكن أن توجِّه العقل إلى الشك في جميع الأفكار والمعتقدات.
أشهر فلاسفة ما قبل سقراط
تُعدُّ ما قبل سقراط ذات أهميةٍ خاصة لما لها من تأثيرٍ واضح على الفلاسفة اللاحقين مثل سقراط وتلميذه أفلاطون، الذي تتلمذ على يده وتأثر به تلميذه أرسطو. ولا يخفى أن تأثير أرسطو على الفكر الغربي كان كبيرًا، وظلَّ هو الفكر المرجعي لقرونٍ عديدة وفي جميعًا.
وتُعرَف فلسفة ما قبل سقراط بأنها جميع الأفكار والمسائل الفلسفية المطروحة في زمان سقراط أو قبل ولادته؛ إذ يصعُب تحديد التواريخ الزمنية بدقةٍ في تلك الفترة، لأنَّ معظم الأعمال والمؤلفات فُقِدت أو لم تصِل إلى الأجيال الحديثة.
لكن مع ذلك، يَعدُّ الكثير من المؤرِّخين أن طاليس هو أول الفلاسفة، لوجود عدة رواياتٍ تؤكد أنه تمكَّن من التنبُّؤ بظاهرة كسوفٍ شمسي حدثت في العام 585 قبل الميلاد، ومن ثمَّ يمكن اعتبار القرن السادس قبل الميلاد هو تاريخ ولادة العلم والفلسفة.
من جهةٍ أخرى، حفلت فلسفة ما قبل سقراط بأفكارٍ وإسهامات كبيرة أُعيد استدعاؤها مرَّاتٍ عديدة في القرون اللاحقة، لما تميَّزت به من عمقٍ فكري وتوجُّه النظر العقلي إلى أكثر المسائل تجريدًا، فضلًا عن نشأة الرياضيات المنظمة وتطوُّرها كثيرًا في تلك الفترة.
فيثاغورس
أحد أ وأهمهم، سواءً ما قبل سقراط أو ما بعد سقراط؛ إذ بدأت الرياضيات باعتبارها قياسًا منطقيًّا قاطعًا لا يعتريه الشك ويمكن تطبيقه على الواقع الحسِّي مع فيثاغورس وجماعته التي أسسها في .
وُلِد فيثاغورس عام 570 قبل الميلاد في جزيرة ساموس اليونانية، لكن أحداث حياة فيثاغورس وتفاصيلها مشكوك فيها إلى حدٍّ بعيد بسبب امتزاج سيرته بالخرافة. فمثلًا، بخصوص مولده تُوجد روايات عديدة تذكر أن فيثاغورس هو ابن الإله أبولو، في حين تُوجد روايات أخرى تذكر أن فيثاغورس كان ابن رجلٍ ذي مكانةٍ مرموقة يُدعى مينسارنوس. وبالرغم سهولة الفصل بين هاتين الروايتَين، إلا أن المشكلة تنشأ من وجود رواياتٍ كثيرة مختلفة بشأن سيرته عمومًا.
اعتقد فيثاغورس أن جميع الأشياء هي عبارة عن أعداد، وأسس مذهبًا دينيًّا يمزج بين المسائل الروحية والهندسة، وكان له مجموعة من الأتباع، ويُعتقَد أن جميع الإسهامات التي قدَّمها أتباعه كانت تنسب إلى فيثاغورس نفسه.
قدَّم فيثاغورس عدة إسهاماتٍ مهمة، منها مبرهنته الشهيرة التي ما زالت تُستخدَم في العصر الحالي والمعروفة باسم (نظرية فيثاغورس)، والتي تنص على أن مربع الوتر في المثلث قائم الزاوية يساوي مجموع مربعَي الضلعَين الأخرَين.
كما تُنسَب إليه عدة أعمالٍ في الموسيقى، بالإضافة إلى نظرية النسب. ويُقال إن فيثاغورس هو أول من اعتقد بكروية الأرض، وأول من قسَّم الأرض إلى خمس مناطق مناخية مختلفة. وما من شكٍّ في أن فلاسفة كبار مثل أفلاطون وأرسطو قد تأثروا بمذهب فيثاغورس، وبطبيعة الحال ففيثاغور هو أحد وصاحب مثلث فيثاغورث.
ديموقريطس
ديموقريطس هي كلمة إغريقية تعني المُختار من الناس أو المُصطفى. وُلِد ديموقريطس في المدينة اليونانية أبديرة عام 460 قبل الميلاد تقريبًا، وقدَّم إسهاماتٍ عديدة في مجالاتٍ مختلفة مثل علم الجمال والموسيقى والعلم الطبيعي، لكنه عُرِف خصوصًا بصياغته الذرية للكون.
وبالرغم من تسفيه أفلاطون وأرسطو لأعماله عمومًا، ولنظريته الذرية خصوصًا؛ إلا أنه يُعدُّ من قِبَل البعض أبا العلم الحديث، إذ كان ديموقريطس من الفلاسفة الأوائل الذين اعتقدوا بأنَّ المعرفة أصلها الحواس والتجريب، وهو المبدأ الذي يقوم عليه العلم الحديث إلى حدٍّ بعيد. كما استُدعِيت نظريته الذرية في العصر الحديث عدة مراتٍ مع إثباتها تجريبيًّا بعد تطويرها لتقوم على مبادئ علمية واضحة ودقيقة.
اعتقد ديموقريطس أن كل شيء يتكوَّن من ذراتٍ مادية متناهية الصغر (بما في ذلك الروح أو النفس)، وأن هذه الذرات لا يمكن تقسيمها إلى وحداتٍ أصغر، كما أنه يُوجَد عدد لانهائي منها، ولها أشكال وأحجام مختلفة، بالإضافة إلى كونها لا تفنى وتتحرك باستمرار.
فسَّر ديموقريطس اختلاف الأشياء عن بعضها باختلاف الذرات المكونة لها؛ مثلًا، اعتقد أن ذرات الملح حادة ومدببة، ولذلك تعطي الملح ملوحته، أما ذرات الماء فهي سلسة وتنساب على بعضها.
وبالرغم من أن تأويلات ديموقريطس شديدة البعد عن الحقيقة المعروفة في المجتمع العلمي حاليًّا، إلا أن الفكرة الأساسية المُجرَّدة، التي تدلُّ على أن تفسير الطبيعة وفهمها يكون من خلال فهم الأجزاء الأولية المكوِّنة للطبيعة، هي المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه الفيزياء الحديثة.