جابر بن حيان أبو الكيمياء
إن ريادة في اعتماد المنهج العلمي في الكيمياء، وإجراء الاختبارات المخبرية، واكتشاف تقنية التقطير، أكسبته لقب “جابر بن حيان أبو الكيمياء”.
و يعتبر الجامع الأموي في دمشق بزخارف سقفه المطعمة والمطلية بالذهب، من ضمن التطورات في فن الزخرفة بالمعادن التي حصلت في العصور الوسطى والتي أدت إلى تقليل الاعتماد على الذهب الخالص في الزخرفة، وكان الرصاص يستخدم أيضا لإضفاء اللمعان على سقف السيراميك، وقد ساعد استخدام مَغَاطِسَ صباغ الجلد والأقمشة المختلفة على تغيير وجه الحضارة، وقد بدأ اعتماد المعادن في الأعمال الفنية في الشرق الأوسط خلال حكم العباسيين لهذه المنطقة، وفي دمشق مر تراث الأعمال الفنية المعدنية بمرحلة تطور طويلة قبل أن تصل إلى مرحلة ازدهارها، وكان النحاس من بين المعادن القليلة التي تم استخدامها في التطعيم، وقد ظهر العمل بالمعادن ذات الجودة العالية بفضل مراهق عاش في القرن الثامن الميلادي اسمه “أبو عبد الله جابر بن حيان”، هذا الكيميائي الذي استفاد من فترة اشتغاله وخدمته للخلفاء في بغداد، حيث كان لدار الحكمة التي أنشأها العباسيون الفضل الكبير في الحفاظ على مختلف العلوم التي خلفها اليونانيون والأقباط المصريون إرثا عن الفراعنة.
حياة جابر بن حيان
ولد أبو عبد الله جابر بن حيان بن عبد الله الأسدي بمدينة “طوس” الإيرانية سنة 721م/102هـ، ومن المؤرخين من ينسب ولادته “بالجزيرة” على الفرات شرق ، ومنهم من ذهب إلى تأصيله من مدينة “حران” شرق العاصمة السورية دمشق، على العموم ولد جابرٌ بن حيان لأب يعملُ في العطارة والصيدلة، فقد تعود أن يستخلص الأدوية من النباتات، الشيء الذي هيأ لابنه مناخاً ملائماً للتدقيق في هذه الصنعة وممارستها بمنهج علمي تجريبي، فالمعلوم أن علم الصيدلة و وجهان لعملة واحدة، كما ساعده على ذلك عقله المتفتح وذكاءه الوقاد على أن يملك ناصية هذا العلم، وقد حاول العديد من المستشرقين أن يشككوا في حياة جابر بن حيان وجعلوا منه مجرد وهمٍ طرحه العرب في كتبهم، لكن أعماله التي أُرِّخت في أمهات المصادر التي تعود للحقبة التي عاش فيها أخرست ألسنة المشككين في هذا الأمر.
إن أهم ما يميز جابر بن حيان أنه عاش على عتبة عصر الإبداع ونهاية عصر النقل والترجمة عن الحضارات السابقة، ومن المعروف أن حركة الترجمة بدأت بشكل مبكر جدا خلال واستمرت خلال العهد العباسي الذي عاش فيه. وخلال النكبة التي حصلت للبرامكة (أسرة ذات أصل مجوسي من بلاد فارس، كانوا أغنياء وذوي سلطة ونفوذ) أيام الخليفة “” من تقتيل ومصادرة الأموال والتشريد، والتي تُعد من بين أبرز الأحداث السياسية المؤثرة في حكم هارون الرشيد، هرب جابر بن حيان الذي كان مرتبطا بالبرامكة لسبب من الأسباب، فاضطر أن يهرب من بغداد إلى الكوفة، وأثناء اختبائه في مكانٍ بخراسان لاحظ أن الآجر (طوب البناء الأحمر) يتفاعل كيميائيا بشكل ينتج نوعاً من الأملاح، الشيء الذي جعله يطرح العديد من الفرضيات الكيميائية. نعم، إنه جابرٌ بن حيان المولع بالكيمياء حتى في أوقات الشدة. ولا غرو، فقد سمي باسم: “جابر بن حيان أبو الكيمياء”.
يذكر الدكتور “عمر الأندلسي” في “تاريخ العلوم” أن جابر بن حيان درس من مختلف الكنوز التي جادت بها مصر و، واطلع على محتوياتها التي كانت ذات طابع سري، وتتلمذ على يد سليل الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، العالم الجليل “جعفر الصادق” الذي كان ضليعا في الكيمياء والفلك والفلسفة والطب والفيزياء، والذي اعتمد المنهج التجريبي الذي تأثر به جابر بن حيان واتخذه مسلكا في أبحاثه، وعبر عن ولعه بهذا المنهج بمقولته الشهيرة: “إن كل صنعة لا بد من سبوق العلم في طلبها للعمل”، ولقد نُسب إليه الفضل بسبب هذا المنهج في انتقال من صنعة الذهب الخرافية(اعتقد القدماء أن هناك إكسيرا يحول جميع المعادن إلى ذهب) إلى طور التجريب في المختبرات، فأصبح بفضل منهجه من أغزر العلماء إنتاجا في العلم والأدب، فقد ألف العديد من المؤلفات التي صنفها وفق فهرسين:
- الفهرس الأول سماه: “الكبير الشامل”: يحتوي على جميع مؤلفاته.
- الفهرس الثاني يحتوي على المؤلفات الصنعوية.
في فترة أوج جابرٍ بن حيان في الكيمياء، استطاع الوصول إلى عملية علمية محضة في تلبيس المعادن بالذهب ويورد الدكتور محمد هشام النعسان في كتاب “منتخبات من نوادر المخطوطات العلمية” في إحدى رسائله العلمية:”حَوَّلْنَا المَعْدِنَ الخَسِيسَ إِلَى مَعْدِنٍ شَرِيفٍ بِالقَالَبِ الصَّابِغِ”، وتعني هذه الكلمة (القالب الصابغ) أن العملية الكيميائية التي قام بها تقوم على صباغة المعادن بالذهب وهي عملية معروفة اليوم عند الصاغة، لكن تم اتهام جابرٍ بن حيان بالسحر والشعوذة والاستعانة بالجن لتحويل المعادن الخسيسة إلى “التِّبْرِ” (الذهب)، فداهم العامةُ مختبره وأحرقوه، إلا أن جابراً كان قد نجا بنفسه وبما استطاع من الكتب القليلة.
المنهج العلمي التجريبي لجابر بن حيان
وضع جابر بن حيان خطوات كان يوصي بها طلابه لمنهج البحث العلمي، كما وضع صفاتٍ يجب أن يتصف بها الباحث العلمي، فكان دائما يصر على التجربة ويعتبرها أساس نجاح العالم، وقد بنى كل نظرياته على التجريب، حيث لم يكن رجلا يصف الظواهر من الخارج، والجدير بالذكر أن اليونانيين في تاريخ العلم وصلوا إلى مرحلة “الوصف”، لكن العلماء المسلمين وفي مقدمتهم جابر بن حيان وصلوا إلى مرحلة “التجريب”، ويورد الدكتور محمد هشام النعسان جملة تُنْسَبُ لجابر بن حيان تلخص مبدأه التجريبي: “صَنَعْتُهُ بِيَدِي وَفِي عَقْلِي مِن قَبْلُ، ثم امْتَحَنْتُهُ مَا كَذَبَ”، ومعنى هذا أن منهج جابرٍ هو التفكير أولاً في التجربة، ثم تنفيذها، ثم تأكيد صدقها بملاحظات ونظريات وتجارب أخرى.
مؤلفات جابر بن حيان
ألف جابر بن حيان العديد من الكتب أهمها:
- كتاب الخواص الكبير.
- كتاب الخواص.
- كتاب الرحمة.
- كتاب هتك الأستار.
- كتاب التراكيب.
- كتاب الإكسير وصناعة الذهب.
- كتاب السموم ودفع مضارها.
تتميز كتب جابر بن حيان بوضوحها اللغوي ودقتها العالية في الشرح، وكذا تمييزه للعملية الكيميائية بصورة محددة كمية، حيث وضع في رسائله و مؤلفاته الكميات اللازم وضعها في التجربة الكيميائية لحصول تفاعل كيميائي مثالي. وينسب إلى جابر بن حيان عدد ضخم من الكتب، والسر في ذلك أن العديد من العلماء في ذلك الوقت كانوا يؤلفون الكتب وينسبونها إلى إسم جابر بن حيان الكبير لكي تحظى بالرواج والانتشار المنشود، إلا أن مؤرخي العلم والمحققون اتفقوا على أن مئة واثني عشرة كتاب فقط هي التي تنسب لجابر بن حيان.
أهم إنجازات جابر بن حيان
تنسب العديد من الإنجازات العلمية لجابر بن حيان أوردت الدكتورة “بثينة البلخي” بعضها في سلسلة محاضراتها “تاريخ الكيمياء” :
- نظرية الميزان: هي نظرية مهمة جدا في علم الكيمياء، فكان الميزان عند هذا العالم الجليل نوعان: الأول يدعى الميزان الوزني: وهو ميزان استخدمه لوزن كميات ومقادير من مواد معينة، أما الميزان الثاني ميزان الطبائع: كان يزن الطبائع التي يتمتع بها جسم معين(الحرارة، اليبوسة،الرطوبة)
- اكتشاف مادة “الزنجفر” أو الحجر الأحمر الناتجة عن تفاعل الزئبق مع الكبريت، كما بين في كتابه “الخواص الكبير” ماهية هذه المادة وخصائصه الكيماوية.
- حضر ماء الذهب أو ما أُطلق عليه “الماء الملكي” الناتج عن مزج حمض الآزوت وحمض كلور الماء.
- اكتشاف بديل لزخرفة الكتب والمخطوطات الباهضة بالذهب الخالص وهو “كبريتيد الإنتموان”.
- أنجز أول كتاب وصل بين الطب والكيمياء، هو كتاب “السموم ودفع مضارها”، حيث قدم فيه أنواع السموم الثلاثة (المعدنية، الحيوانية، النباتية) وكذا نوع الترياق المضاد لكل سم، والأدوية المفردة والمركبة كيميائيا.
- اخترع جهازاً للتقطير أسماه “الإِنْبِيقُ”، وشرح مختلف عمليات التقطير.