حضارة قديمة في العراق
يتميز التاريخ القديم لبلاد العراق (بلاد الرافدين) بغناه الحضاري، وقد سميت باسم بلاد الرافدين نسبة إلى نهري دجلة والفرات اللذين يخترقانه من الشمال إلى الجنوب، إذ أن الرافد في اللغة هو ما يمد النهر من قناة أو نُهَيرٍ ـ معجم المعاني الجامع ـ، كما يعني المُصاحِبَ، حيث أن نهري دجلة والفرات مصاحبان لبعضهما البعض.
وتاريخ هذا البلد جزءٌ لا يمكن فصله عن تاريخ الشرق الأدنى القديم، فمنذ أقدم الأزمنة كانت تؤلف هذه المنطقة وحدة جغرافية ذات أصلٍ مشترك، ولا تزال حتى اليوم مرتبطة بمصالح مشتركة وتاريخ واحدٍ و يجمع بين مختلف عناصره لحمة واحدة، إذ في هذا الجزء من العالم قامت أعظم الإمبراطوريات ونشأت أقدم الحضارات الإنسانية، وقد كان للموقع دور كبير في الربط بين العراق وحضاراته المختلفة وبين و و و و ، فحدث ما يسميه الباحثون بمصطلح “التلاقح الحضاري”.
مجال امتداد العراق القديم
يحدد كِتَابُ “حضارة العراق” الذي ألفه نخبة من الباحثين العراقيين منطقة امتداد العراق القديم: “… وتحدد بالمنطقة الممتدة من هضبة أرمينيا في الشمال (حيث ينبع نهرا دجلة والفرات) حتى الخليج في الجنوب، ومن الفرات غربا حتى ما وراء دجلة شرقا”. هكذا، فإن العراق تشكل منطقةً إستراتيجية وحلقة وصل بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب، وتتمتع بمميزات تضاريسية متنوعة، إذ تشمل الصحراء والمستنقعات والجبال والهضاب والسهول.
حضارة سومر ببلاد الرافدين
أثبتت الاكتشافات الأثرية التي أدرجها “أنطوان مورتكات” في كتابه “تاريخ الشرق الأدنى القديم” والذي قام الدكتور “توفيق سليمان” بتعريبه أن أقدم الحضارات الهامة في بلاد الرافدين تطورت على يد قوم غير ساميي الأصل(مصطلح السامية عند الأركيولوجيين وفي مقدمتهم المستشرق “شلوتزر” الذي أطلقه على اللغات التي تم الكشف عنها قديما وهي العربية، العبرانية والآرامية والتي تنتمي إلى عائلة لغوية واحدة Family of languages)، ولم يُعرف جنسهم الأصلي على وجه التحديد حتى الآن، كما لم يتم إرجاع لغتهم إلى عائلة اللغات السامية أو عائلة اللغات الهندو ـ أوروبية، يطلق عليهم اسم “السومريين”، لأن المنطقة التي كانت لهم السيادة عليها في بلاد الرافدين كانت تسمى سومر(جنوب العراق).
يرى بعض المؤرخين وفي مقدمتهم الدكتور “أحمد أمين سليم” في كتابه “دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم” بأن السومريين ينحدرون من الأقوام التي قطنت العراق في عصور ما قبل التاريخ، وهو الرأي الأكثر ذيوعا في وسط المؤرخين، حيث أن أسس الحضارة السومرية نشأت في العراق، ويمكن تتبع أسسها وأصولها إلى أقدم العصور، وهناك آراء أخرى ترى بأنهم قدموا إلى المنطقة من المرتفعات الواقعة في الشمال الشرقي للعراق عن طريق أرمينيا وإيران، إلا أنه بشكل عام، فإن التأصيل لهم يعد محض فرضيات لا أكثر، والأهم من هذا كله أن السومريين أسسوا حضارة تعد من أهم الحضارات في تاريخ العراق القديم، فقد خلفت إرثا حضاريا كبيرا في العديد من المجالات:
- الكتابة المسمارية: يرجع الفضل في ا إلى أرض سومر ببلاد الرافدين حوالي 3500 قبل الميلاد، ويعد هذا الحدث بمثابة طفرة تاريخية، وانتقال من عصور من قبل التاريخ(العصور الجيولوجية، والعصور الحجرية) إلى العصور التاريخية (القديم، الوسيط، الحديث،المعاصر،الراهن)، إلا أن الفضل في تطور الكتابة المسمارية (نسبة لأشكالها التي تشبه المسامير) يعود للحضارة السومرية، يقول الدكتور علي العشاق “محاضرات في تاريخ الشرق الأدنى القديم” بأن “الفضل للسومريين في هذا الأمر يتمثل في كونهم أدخلوا على الكتابة المسمارية تجديدات صوتية تتمثل في أشكال الكتابة التي تتناسب و استخدام أقلام الخشب والمعدن ذات السن المذبب، فكلمة {ماتوا} التي تعني الأرض يكتبها الكاتب السومري بثلاثة أشكال مسمارية بسيطة تدل عليها ثم يتبعها بثلاثة رموز صوتية “ما ـ آ ـ تو”، فضلا عن إمكانية إضافة العلامات التصويرية”. هكذا، فقد ظلت الكتابة المسمارية تربط بسهولة مختلف أشكال التواصل بين الشعوب القاطنة بالشرق الأدنى القديم.
- العمارة: برع السومريون في البناء باللبنات Blocks، وهذا ما أعطى تشييداتهم ـ خاصة الدينية منها ـ طابع القوة والصمود عبر الزمن، الأمر الذي سيفيد العديد من الحضارات في المنطقة في مجال العمارة.
- العقائد الدينية: يذكر الدكتور “أحمد أمين سليم” أن الحكام السومريين قد احتفظوا برئاسة النواحي الدينية الرسمية، إلا أنه يذكر إحالة الإشراف على هذا الأمر لفائدة الكهنوت من أبنائهم وكبار أعوانهم، “وقد احتفظت النصوص المسمارية بألقاب كثيرة أُطلقت على الكهنوت من بينها: إن، جونج، لوماخ، سانجا، سنكوماخ… ” ـ الدكتور علي العشاق “محاضرات في تاريخ الشرق الأدنى القديم”ـ . اتخذ السومريون لأنفسهم العديد من الآلهة شأنهم في ذلك شأن غيرهم من أصحاب الديانات الوضعية القديمة، وقد ذهب العديد من المؤرخين إلى وصف ديانتهم بأنها ديانة طبيعية في مجملها، حيث أن كهنتهم تخيلوا أن السماء والأرض في البداية ملتصقتين يحيط بهما محيط مائي عظيم، وفي مقدمة هؤلاء المؤرخين نجد “هووك” في كتابه “الديانة البابلية والآشورية Babylonien and Assyrien Religion”،.
- النظم الاجتماعية: كان المجتمع السومري يتألف من ثلاث طبقات هي: الطبقة العليا (الملوك، الحاشية، رجال الدين)، الطبقة الوسطى(الأحرار الحرفيون والتجار والمزارعون)، الطبقة السفلى(العبيد) إلا أن الأبحاث أكد على أن حالة العبيد في سومر كانت أفضل بكثير عن حالة العبيد في الحضارات الأخرى، حيث كان بإمكانهم اقتناء العقارات والمتاجرة لحسابهم الخاص، كما كان بإمكانهم اقتراض المال ليشتروا به حريتهم، كما تبين أنه كان للمرأة السومرية مكانة محترمة في المجتمع، فقد كان بإمكان النسوة أن يشتغلن بالتجارة ويزاولن المهن وكذا يصبحن كاهنات في المعابد ـ الدكتور علي العشاق، المرجع السابق ـ.