ماهي سورة التوديع؟
إن الحديث عن سورة التوديع يغلفه التأثر؛ لأن صلى الله عليه وسلم أعظم مصيبة نزلت بالأمة الإسلامية وزلزلت كيانها وعصفت بحال المسلمين، بل إن بقية النوازل والبلايا التي تحل بالإنسان المسلم لا تكاد تذكر أمامها؛ فموته عليه الصلاة والسلام لا يتساوى مع وفاة بقية المسلمين؛ لأنه أفضل خلق الله على الإطلاق وسيد المرسلين وخاتم الأنبياء الذي انقطعت بموته النبوة ووحي الله إلى الأرض، حتى أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما دخلا على أم أيمن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يتفقدانها فوجداها تبكي فقال لها أبو بكر: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله، قالت: والله ما أبكي أن لا أكون أعلم ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أنّ الوحي انقطع من السماء، فهيَّجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان) رواه مسلم.
وكان لوفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم أثرٌ عظيم في نفوس صحابته رضوان الله عليهم أجمعين الذين التاعت قلوبهم لفقده وشعروا بعظيم الأسى على هذا المصاب الجلل، رغم أن حزنهم لم يخرجهم عن الصبر والإيمان بقضاء الله وقدره ولم يثنهم عن إكمال مسيرة نبيهم بنشر وتوحيد الله ونبذ الشرك وقتال المرتدين الذين تركوا الدين الإسلامي بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
وقد علم الرسول عليه الصلاة والسلام وبشر باقتراب أجله من خلال عدة آيات ذكرت في القرآن الكريم منها آية (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) التي وردت في سورة الزمر وقوله تعالى في سور آل عمران (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) وغيرهما من الآيات التي جاءت تحمل في مضمونها خبر وفاته؛ إلا إن سورة النصر والتي سميت بسورة التوديع كانت آخر سورة نزلت على الرسول عليه الصلاة والسلام وعرف بنزولها هو وصحابته أن الوداع اقترب وأن أجله عليه الصلاة والسلام قد حان، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال :أنزلت هذه السورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} على رسول الله صلى الله عـليه وسلم في وسط أيام التشريق، وعرف أنه الوداع. (سنن البيهقي)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه سألهم عن قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قالوا: فتح المدائن والقصور، قال: ما تقول يا ابن عباس؟ قال: (أجَلٌ أو مَثَلٌ ضُرب لمحمد صلى الله عليه وسـلم نعيت له نفسه).
ماهي سورة التوديع
وقد سميت سورة النصر بسورة التوديع كما هو موضح في الأحاديث أعلاه لأن فيها إشارةً إلى نعي الرسول عليه الصلاة والسلام وقرب أجله، حتى أنه قال لعائشة رضي الله عنها حين نزلت عليه: ما أراه إلا حضور أجلي وقد كان نزولها في حجة الوداع ثم تلاها نزول قوله تعالى في سورة المائدة : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، وتسمى سورة النصر أو سورة التوديع أيضًا بسورة الفتح وهي سورة مدنية عدد آياتها ثلاث.
مقاصد سورة التوديع
تضمنت سورة النصر أو سورة التوديع مقاصد رئيسة في إظهار حال الإسلام والمسلمين، وهي كالآتي:
- بينت سورة النصر أو سورة التوديع حال المؤمنين وعاقبتهم التي تمثلت بالنصر والفتح والتمكين من عند الله تعالى، كما حملت البشرى للرسول عليه الصلاة والسلام بنصر الله للإسلام وإقبال الناس للدخول فيه أفواجًا وجماعاتٍ من كل حدب وصوب.
- بيان مشروعية التسبيح والاستغفار عند حدوث الخير والنعم.
- تضمنت سورة التوديع ختام الوحي وخبر وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، ورغم أن ظاهر السورة لم يحمل أنباءً عن قرب وفاته، إلا إن الدلالات التي جاءت بها عن اكتمال رسالة الدين وتثبيتها أظهرت قرب أجله عليه أفضل الصلاة والسلام.
- تأييد الله لرسوله بالنصر، حتى أن فتح مكة حدث بأسلوب ماهر ينم عن عبقرية قيادية خلت من القتل والقتال وإراقة الدماء.
أسباب نزول سورة التوديع في القران
كان لكل سورة من سور موقفٌ أو مناسبة أو سبب أدى إلى نزولها، ويذكر العلامة الواحدي في أسباب نزول سورة التوديع عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما أقبَل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حُنين، وأنزل الله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) (النصر: 1)، قال: ((يا علي بن أبي طالب، ويا فاطمة، قولا: جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، فسبحان ربي وبحمده وأستغفره إنه كان توابًا) فكان نزول هذه السورة.
فوائد عميقة من سورة التوديع
حملت سورة التوديع أو سورة النصر العديد من فوائد العلم الشرعي وفرائده للمسلمين والتي ينبغي لكل مسلم تعلمها وفهمها وتعليمها لغيره، وهي كالآتي:
- إن من الآداب العظيمة التي وجه إليها الشرع وحث على اتباعها في سورة التوديع هو ختم الأعمال الصالحة بالاستغفار؛ لأن فيه اعترافًا من العبد بتقصيره في حق الله وبراءةً له من الكبر والرياء والإعجاب بالعمل.
- فائدة أخرى عظيمة حملتها لنا سورة التوديع ولا يدركها إلا من يتعمق بها هو أن النصر شرف لا يستحقه ولا يناله إلا أهل البراءة من الذنب الذين يتطهرون من آثامهم وذنوبهم بالاستغفار المتواصل.
- إقران الحمد بالتسبيح والاستغفار من كمال العبادة، فإن الأُولى حق الله، والثانية من حظ العبد.
- حملت سورة النصر فائدة تربوية عظيمة، وهي أن فريضة الجهاد مقدمة للنصر، وقد شُرعت لهداية الناس وصلاحهم ولدخولهم في دين الله ونقلهم من الظلمات إلى النور في المقام الأول وليس لترويعهم خاصة المستضعفين منهم؛ وذلك حتى لا تزيغ أبصار المجاهدين الذين يحملون في قلوبهم غيظًا على الكفار عن المقصد الرئيس من الجهاد وهو الدعوة وهداية الناس.