مكة مهبط الوحي
لم تحظَ مدينة في بما نالته مكة من اهتمام بكلِّ تفاصيل تاريخها، ولا عجب في هذا؛ فهي المهبط الأول للوحي، وشهدت البواكير الأولى لنشأة الإسلام، ومن هذه التفاصيل التي عني المؤرخون بالكتابة فيها أسماؤها المتعددة التي تباينت الكتب في تحديد عددها.
يقول الإمام النووي: “ولم يُعلَم بلد أكثر أسماءً من مكة المكرمة و لكونهما أفضل بقاع الأرض”.
وفي هذا التقرير، نحاول استعراض أبرز الألقاب التي حملتها المدينة المقدسة، ثمانية منها جاء ب والبقية عرجت عليها أسطر كتب التاريخ.
أسماء مكة المكرمة
- : أي التي يزدحم فيها الناس، أو تمكُّ الذنوب، أي تمحي كل ذنوب المؤمنين، وقيل إنها حملت هذه التسمية لأنها في منخفض يُدعى “المكوك” يقع بين جبلين، فيما يزعم المستشرق بروكلمان أنها كلمة آرامية قديمة بمعنى “الوادي”.
- بكة: لأنها تبُكُّ عنق الجبارين، أي تُذلُّهم وتهشمهم، أو بسبب “بكِّ” الناس لبعضهم خلال الطواف حول الكعبة. ويرى بعض علماء اللغة أن كلمتي “مكة” و”بكة” متطابقتان وتُعبِّران عن نفس المعنى، فيما يرى آخرون أن “بكة” موضع البيت، أما سائر ما حوله فهو “مكة”.
- البلد: تكرر هذا الاسم خمس مرات تراوحت بين التعريف والتنكير، وأما ما ورد مُعرفًا بـ(أل) فقوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدًا آمنًا}، وقوله سبحانه: {لا أقسم بهذا البلد () وأنت حلٌّ بهذا البلد}، وأما ما ورد منكرًا فقوله تعالى: {وتحمل أثقالكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بشقِّ الأنفس}، وقوله: {وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا بلدًا آمنًا}. ولقد أجمع المفسرون على أن المراد بالبلد هي مكة. يقول ابن منظور: “منح الله مكة لقب “البلد” تكريمًا لها، كالنجم للثريا والعود للمندل.
- أم القرى: جاء هذا اللقب في موضعين ب، الأول في قوله تعالى: {ولتنذر أم القرى ومن حولها}، والآخر في قوله: {وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيًّا لتنذر أم القرى ومن حولها}، وعدَّ المفسرون أن سبب منح مكة هذا اللقب أنها أقدم ما سُكِن في الجزيرة وأكثر مواطن السكن اجتماعًا من القبائل على احترامها وتوقيرها.
- البلد الأمين: وهي تسمية نصَّ عليها القرآن مرةً واحدة في قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ}.
- النساسة أو الناسة: الطاردة والزاجرة، لأنها لا تسمح بالظلم أبدًا، وإن بغي أحد فيها أخرجته، وقيل لأنها تَنسُّ الملحد أي تطرده، أو لأنها تَنسُّ ذنوب المؤمنين أي تُذهبها.
- الحاطمة: لأنها تحطم كل من يستخف بها، وفيها ينشد الفاكهي شعرًا ويقول:
أبصروا ثم كثيرًا مولمًا …. وأيامًا في شعوب الحاطمة. - القادس: لأنها تُقدِّس من الذنوب أي تُطهِّر منها.
- الباسة أو البساسة: لأنها تبس أي تحطم الملحدين، وقيل تخرجهم، يقول تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} أي تحطمت.
- مَعَاد: نزلت آية: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} بعدما شعر النبي باشتياقٍ لمكة، ويرى المفسرون أن المقصود بهذه الكلمة في الآية هو “مكة”، استنادًا إلى قول ابن عباس الذي أخرجه البخاري، وبهذا تعني الآية تعهدًا من الله بأن يرد النبي إلى وطنه من جديد. يقول القتبي: إن معادَ أي رجل هو بلده، لأنه مهما انصرف منه فإنه يعود إليه في النهاية. فيما يوضح القرطبي معلقًا على هذه الآية: إن الله ختم السورة ببشارةٍ لنبيِّه محمد بأنه سيردُّه إلى مكة قاهرًا لأعدائه.
- الوادي: كانت هي الوادي غير ذي زرع الذي لجأ إليه النبي إبراهيم وزوجته ودعا له بالخير، يقول تعالى: {رَبَّنَـا إِنِّي أَسْكَنْـتُ مِنْ ذُرِّيَّتِـي بِـوَادٍ غَيْـرِ ذِي زَرْعٍ عِنْـدَ بَيْتِـكَ الْمُحَـرَّمِ رَبَّنَـا لِيُقِيمُـوا الصَّـلَاةَ فَاجْعَـلْ أَفْئِـدَةً مِـنَ النَّـاسِ تَهْـوِي إِلَيْهِـمْ وَارْزُقْهُـمْ مِـنَ الثَّمَـرَاتِ لَعَلَّهُـمْ يَشْكُـرُونَ}.
- تهامة: لقب يُطلَق على قطعة أرض منخفضة بين ساحل البحر والجبال في الحجاز واليمن، وأحيانًا كانت الكلمة تُستخدَم للدلالة على كل من ينتسب إلى هذه المنطقة، ولهذا كان يُطلَق على النبي أنه تهامي.
- البلدة: ذُكِر هذا الاسم في موضعٍ واحد بالقرآن، وهو قوله تعالى: {إنما أُمرت أن أعبد رب هذه البلدة التي حرمها}، وهو يشابه اسم البلد من ناحية الاشتقاق، فقط يختلف عنه في أن البلد مذكر والبلدة مؤنثة. وقد بيَّن علماء اللغة الفرق بينهما، فقال ابن منظور: “البلد والبلدة هو كل موضع ذي حيز، سواءً كان عامرًا أو لا، لكن البلد هو جنس المكان، كالعراق مثلًا، أما البلدة فهي جزء مخصص منه كالبصرة.
ويرى البعض أن القرآن اكتفى في هذه الآية بلقب “بلدة” جريًا على عادة العرب في تأنيث أي كلمة أرادوا لها أن تُوحي بالضعف والحاجة، وكأنه تعالى يشير إلى أن هذه البلدة لم تحرم لذاتها لأنها ضعيفة، وإنما لما منحها لها الله. - صلاح (صلاح بفتح الصاد، على وزن قطام).
وفيها يقول أبو سفيان بن حرب:
أبا مطر هلم إلى صلاح ….. فيكفيك الندامي من قريش
وعُدَّ أن مكة حملت هذا اللقب لأنَّ رحمات الله تتنزل بها، ففيها صلاح الروح. - أُم رحم: (بضمِّ الراء وإسكان الحاء المهملة) قال الزمخشري إنها سُمِّيت بهذا اللقب لأنها “أصل الرحمة”، وقيل لأنَّ الناس يتراحمون عندها وفيها.