الثورة الصناعية في أوروبا
عرفت أوروبا خلال القرن الثامن عشر الميلادي ثورةً صناعية مهَّدت لها ثورةً فلاحية كانت بمنزلة الانطلاقة الفعلية للتنمية الأوروبية التي تشهدها اليوم القارة العجوز؛ ففي الوقت الذي انعتق فيه المجتمع الأوروبي من قيود النظام الفيودالي، أصبحت الطبقة البرجوازية، التي استفادت من سقوط الإقطاعية وامتيازاتها، تبحث عن مجالاتٍ لتوسيع أنشطتها من أجل تكديس رؤوس الأموال، علاوةً على كثرة المعادن النفيسة التي وفدت إلى القارة في إثر الاكتشافات الجغرافية التي قادها الإيبيريون خصوصًا إلى العالم الجديد، وهو ما تأتَّى لهم من خلال في مجال الفلاحة والصناعة، ولا غرو، فقد انطلقت الثورة الفلاحية من إنجلترا مُمهِّدةً للثورة الصناعية.
الثورة الفلاحية، مُمهِّدة الثورة الصناعية
انطلقت خلال القرن الثامن عشر الميلادي في إنجلترا حركة تجديداتٍ وابتكارات همَّت القطاع الفلاحي بالأساس؛ إذ أدخلت التقنية في أساليب الزراعة كآلة (البذَّار الآلي) التي اخترعها جيتروتول، وهذه الآلة ساعدت في زيادة الإنتاج وتقليل الحاجة إلى اليد العاملة.
زِدْ على ذلك ما توصَّل إليه روبير باكويل أواسط القرن الثامن عشر لتحسين المردود من اللحوم عن طريق “انتقاء الأجناس” وتغذية الحيوانات.
علاوةً على ذلك، فقد مارس تاونشيند “الدورة الزراعية الرباعية” عوضًا عن “الدورة الزراعية الثلاثية”، فهذه الأخيرة كانت تقوم على تقسيم الأرض الزراعية إلى ثلاث قطع: حبوب ربيعية، وحبوب شتوية، والثالثة مخصصة لإراحة الأرض.
أما الدورة الزراعية الرباعية فتقوم على تقسيم الأرض الزراعية إلى أربع قطع: قطعة لزراعة الحبوب الربيعية، وثانية للمزروعات العلفية، والثالثة للحبوب الشتوية، وأخرى لمزروعاتٍ مختلفة، هكذا ارتفع الإنتاج الفلاحيباتريك فيرلي ـ الثورة الفلاحية.
الثورة الصناعية
أدى التقدم الفلاحي الذي عرفته إنجلترا خلال القرن الثامن عشر بفضل التجديدات والابتكارات واستخدام وسائل جديدة وأيضًا التخلي عن إراحة الأرض، علاوةً على تجميع الملكيات الفلاحية عن طريق تقنية “التسييج”، إلى تزايد المردودية وارتفاعها، الأمر الذي دعا بإلحاحٍ إلى ارتفاع الطلب على المواد الصناعية (أدوات حديدية، نسيج؛ إلخ).
أما اجتماعيَّا، فقد أدى ارتفاع المردود إلى تراجع المجاعات، وهو الأمر الذي أدى إلى حدوث انفجارٍ ديمغرافي منقطع النظير آنذاك في أوربا، ممَّا وفَّر الأيدي العاملة للقطاع الصناعي، علاوةً على أن المداخيل المرتفعة التي شهدها القطاع الفلاحي وُظِّفت في المجال الصناعي، هذه العوامل كلها أدت إلى الإقلاع الصناعي ومن ثمَّ حدوث .
مفهوم الثورة الصناعية ومجالاتها
- تعريف الثورة الصناعية:
يُقدِّم كارلتون هايز تعريفًا للثورة الصناعية فيقول: “هي تغيير جوهري، أو سلسلة من التغييرات الأساسية في طرق الصناعة، نقلت الجماهير من الحرف الزراعية الموروثة إلى أساليب جديدة في العمل والسفر والمعيشة؛ فشمل التصنيع جميع هذه النواحي تقريبًا”كارلتون هايز ـ الثورة الصناعية ونتائجها السياسية والاجتماعية، ترجمة: أحمد عبد الباقي.
- المجالات التي شملتها الثورة الصناعية وبعض الاختراعات:
:# قطاع التعدين: تمكَّن أبراهام داربي سنة 1709 من صهر الحديد بواسطة استعمال فحم الكوك، الذي يُنتج درجة حرارةٍ عالية، وعندما أطلَّت سنة 1783، استطاع هنري كورت صناعة قضبانٍ حديدية.
:# مجال الطاقة: اخترع نيوكمان سنة 1711 مضخةً بخارية، ثم تمكَّن جيمس واط من صنع الآلة البخارية التي بدأ استعمالها في استخراج المعادن من المناجم، وكذلك في قطاع النسيج.
انعكاسات الثورة الصناعية
أدت الاختراعات والابتكارات التي شهدها قطاع الصناعة إلى حدوث تحولاتٍ جوهرية في المجتمع الأوربي، فعلى سبيل المثال لا الحصر، لمَّا طرح جيمس واط اختراعه، الذي يُعدُّ آلةً اقتصادية بامتياز، فكأنه كان يقول: إن من يريدون استغلال الآلة البخارية عليهم أن يُوحِّدوا عملهم وجُهودهم، والتجمُّع تحت سقفٍ واحدفيرناند ناثان ـ التاريخ، و هو ما سيُعرَف لاحقًا باسم “المصنع”.
وما إن اشتغلت واحدةٌ حتى اضطُرَّ جميع المنتجين إلى استعمالها، ومن ثمَّ قضت هذه الآلة على التجزئة، وخفَّضت ، ممَّا مكَّن من تخفيض أسعار المواد المُصنَّعة أو المُنتَجة بواسطة الآلة البخارية.
وفي أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، كانت الآثار الاجتماعية للثورة الصناعية باديةً للعيان، فالعمال (رجالًا ونساءً وأطفالًا) كانوا مُكدَّسين في المصانع، وبمُجرد وجودهم في المدينة الصناعية، يصبحون خاضعين لسُلطة (الرأسمالي) الذي يمتلك المصنع، ويُصبحون تحت تصرُّفه، كما لم يكُن مُخوَّلًا لهم الاعتراض على الأجور وساعات العمل التي كانت ثلاث عشرة ساعة عملٍ متواصلة خلال اليوم الواحد، ومن أوجه الظروف الصعبة التي عانى منها العمال أنهم كانوا يؤدون غرامات مالية عن كل تأخرٍ على العمل بعشر دقائق، كما حُرِّم على العمال الطعام والنوم في أثناء العمل.
هذه الظروف كلها أدت إلى انتشار ما أُطلِق عليه اسم “النوادي الاجتماعية”، التي كانت تُعدُّ تجمعًا نقابيًّا لعُمال المدن، وفي بعض الأحيان كان تنظيم هذه النوادي في صورة اتحادٍ من أجل الدفاع عن معدلات الأجور ومُستوياتهاالدكتور يونس أحمد البطريق ـ الأحداث الرئيسية في التطور الاقتصادي، إما عن طريق الإضرابات أو بالضغط على أصحاب العمل.
أما الأمر الذي كان أكثر تأثيرًا في التاريخ الأوربي بصفةٍ خاصة والتاريخ العالمي ككل، هو تكدُّس رؤوس الأموال لدى أرباب العمل وأصحاب المصانع من الطبقة البرجوازية، علاوةً على ارتفاع الإنتاج إلى درجة تكدُّس الفائض، ممَّا دفعهم إلى التفكير في البحث عن أراضٍ جديدة لتصريف فائض الإنتاج وتشغيل ، وهو ما سيتولَّد عنه ما سُمِّي فيما بعد بالحركة “الإمبريالية” القائمة على الفكر الاستعماري، والتي تُعدُّ وليدةً مباشرةً للرأسماليةالأستاذ أنس حموتير ـ مقال: أخطاء كارل ماركس التاريخية، جريدة خطوة للحقيقة، العدد: 111،ص:3.