اول معركة بحرية اسلامية

برع المسلمون في حروب البر، فمنذ أن منّ الله على العرب بنعمة الإسلام حتى انطلقت حركة فتوحات سريعة غيّرت وجهة الدنيا بأسرها، بفضل ما منح الله به الفاتحين الأوائل من إيمان وشجاعة وجلد عارم في القتال.
لم يعتد العرب على التعامل مع البحر في قديم الزمان، فندر فيهم مثلاً من يتقن السباحة لذا حضّ عليها في مقولته الشهيرة “علموا أولادكم السباحة”، وعندما ألحّ عليه والي الشام معاوية بن أبي سفيان في الإذن له بغزو قبرص وركوب البحر لها، كتب إلى عمرو بن العاص، طالبًا منه أن يصف له كيف حال البحر، فأجابه: إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلقٌ صغير، إنْ ركد حرق القلوب، وإنْ تحرّك أراع العقول، تزداد فيه العقول قِلّةً والسيئات كثرةً، وهم فيهِ كدودٍ على عودٍ، إنْ مال أغرق، وإنْ نجا فرّق.
فلمّا قرأ عمر ، كتب إلى معاوية: والله لا أحمِل فيهِ مسلمًا أبدًا.
وهو ما حدث فعلاً، ولم تخض جيوش المسلمين الماء للقتال إلا في عهد عثمان بن أبي عفان الذي شهد عصره أول معركة بحرية إسلامية، والمعروفة تاريخيًا بـ”ذات الصواري”، وسميت بهذا الاسم لكثرة عدد السفن التي شاركت بها، وتراوحت بين ألف و600 سفينة.

ما قبل ذات الصواري

بعد وفاة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أعاد معاوية اقتراحه بتشكيل قوة بحرية إسلامية على عثمان بن عفان، بعدما استشعر من خلال وجوده الخطورة التي يمكن للأسطول البيزنطي تشكيلها للثغور الإسلامية، الأمر الذي يهدد بعدم استمرار حالة الاستقرار في المناطق المفتوحة حديثًا.
النواة الأولى لهذا الأسطول كانت السفن التي استولى عليها المسلمون من موانئ الشام ومصر، علاوة على سيطرته على قواعد بحرية بيزنطية سابقة تمكنت منها جيوش المسلمين في عكا والإسكندرية. وبناءً على قرار عثمان بدأت عملية تصنيع سريعة للسفن الحربية ودخل السلاح البحري للجيوش الإسلامية لأول مرة، حتى بدأ أسطول المسلمين في عملية زيادة مطردة شديدة السرعة وضعته في منافسة مباشرة مع السيطرة البيزنطية التاريخية على البحر المتوسط والتي عرف بسببها بـ”بحر الروم”.
وكان طبيعيًا ألا يقف حكام بيزنطة مكتوفي الأيدي أمام القوة الإسلامية المترامية، خاصة وأنهم لم يستفيقوا بعد من الهزائم البرية المتكررة في الشام و.

قد يهمك هذا المقال:   طريقة صلاة الاستخارة

أول معركة بحرية إسلامية

بعد أن تمكنت الجيوش الإسلامية البرية من إلحاق خسائر فادحة بالقوات البيزنطية (الروم) في أفريقية والشام و، خاف قادتهم من السماح بأن يبلغ بالأسطول الإسلامي من القوة التي تمكنه من تهديد القسطنطينية، فأرادو خوض معركة حسبوا أنها مضمونة، بسبب براعتهم في هذه المضمار، تردّ لهم جزءًا من هيبتهم الضائعة وتحفظ لهم السيطرة على البحر الأبيض وجزره التي خططوا لجعلها قواعد يغيرون منها على شواطئ البلاد المفتوحة، فقرروا بدء القتال مبكرًا والانقضاض على الأسطول الإسلامي وهو لم يبلغ أوج قوته بعد.

في العام 35هـ 655 ميلادية تلاقى الأسطولان العظيمان في مكان لم تحدده معظم المراجع ، وأن ألمحت بعض الروايات إلى أنها وقعت بالقرب من ساحل الإسكندرية وأخرى أكدت أنها حدثت بمحاذاة الساحل التركي، وقاد جيش المسلمين عبد الله بن أبي السرح بأسطول يقدر بـ 200 سفينة فقط مقابل ألف سفينة في أسطول البيزنطيين يقودهم القائد قسطنطين الثاني خليفة هرقل عظيم الروم.

أحداث المعركة

أشار أصحاب عبدالله بن أبي السرح عليه ألا يبدأ بالهجوم على البيزنطيين لبراعتهم في فنون الكر والفر بالبحر، فبات ليلته على الشاطئ بجنده كي يرتّب أمره، ومعه بات المسلمون يصلّون ويدعون الله ويتهجدون، فكان لهم دوي كدوي النحل على نغمات تلاطم الأمواج بالمراكب”.
أما الروم فكانوا واثقين من قدرتهم على النصر، وأخذوا يضربون النواقيس في سفنهم شوقًا للمعركة ولإرهاب المسلمين، وفي صباح اليوم التالي كان قائد المسلمين قد استقر على خطته المثلى للمعركة بأن يجعلها برية حتى ولو أقيمت على سفح الماء.

في البداية نزلت نصف قوة المسلمين العسكرية إلى الشاطئ تحت قيادة بسر بن أبي أرطاة قائد الأسطول الشامي الذي أرسله معاوية، وهو ما حدث في الدقائق الأولى من المعركة والتي اقتصر الاشتباك فيها على إلقاء السهام والحجارة، ومن أجل ذلك كانت كل صارية بالسفن مصمم فيها صناديق مفتوحة من الأعلى تسمى “التوابيت”، يصعد لها الرجال ويستقبلون بها الأعداء بالحجارة وهم مستورون بالصناديق.
نفدت في جانب المسلمين، فاضطروا إلى خوض البحر والاشتباك مع العدو مباشرة، فربطوا سفن البيزنطيين بسفنهم كي يتمكنوا من الاندفاع نحوها، وعلى متنها اندلع القتال العنيف وجهًا لوجه بالسيوف والخناجر، وبلغت الإصابات في جانب الروم أوجها، فـ”قتل منهم ما صبغ وجه الماء من الدماء” على حد قول ابن كثير، لدرجة أن الإمبراطور قسطنطين نفسه جرح في القتال.

قد يهمك هذا المقال:   حرف ومهن الانبياء عليهم السلام

يقول ابن الجوزي: “وثب الرجال على الرجال يضربون بالسيوف على السفن، ويتواجئون بالخناجر حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاما حتى صارت كالخبال العظيم عند الساحل، وقتل من الفريقين خلق كثير، ثم نصر الله المسلمين فقتلوا منهم مقتلة عظيمة لم ينج منهم إلا الشريد”.

ويضيف ابن خلدون: ” انهزم قسطنطين جريحًا في فلّ قليل من الروم، وأقام ابن أبي سرح بالموضع أياما ثم قفل وسمى المكان ذات الصواري والغزوة كذلك لكثرة ما كان بها من الصواري، وكانت هذه الغزاة سنة احدى وثلاثين وقيل أربع وثلاثين. وسار قسطنطين الى صقلّيّة وعرّفهم خبر الهزيمة فنكروه وقتلوه في الحمام”.

أهم نتائج المعركة

فشلت كافة مخططات الروم لاستعادة هيبتهم في البحر المتوسط أو حتى بدء محاولات التفكير لاسترجاع مصر والشام، وبعدها تم اغتيال قسطنطين فتولى ابنه قسطنطين الرابع من بعده، وكان ضعيفًا صغير السن، ما جرأ المسلمون على تنظيم أول حملة بحرية وبرية إسلامية فيما بعد.
وبعدها أيضًا تفوق المسلمون في القتال بالبحر ففتحوا قبرص وكريت وكورسيكا وسردينيا وصقلية وجزر البليار، ووصلوا إلى جنوة ومرسيليا، كما بدأ الاهتمام بالعلوم البحرية وصناعة السفن وعلوم الفلك وكيفية تسييرها في البحار، وظهرت أسماء بارز لبحارة مسلمين في هذا المضمار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *