تاريخ صناعة الورق
كانت الرغبة في التدوين حافزًا أساسيًّا عند الإنسان لتخليد كلماته التي يمكنها وحدها أن تُلخِّص أحلامه وطموحاته، وتخبر عنه أنه عاش في مكانٍ ما يومًا.
تخيَّل مثلًا الحال لو لم يُدوِّن الفراعنة نقشوهم على المعابد، ما كنَّا عرفنا أبدًا جُلَّ ما فعلوه، ولبقي عظيم فِعلهم طيَّ كتمان الزمن إلى الأبد.
من الصخر إلى الخشب إلى أوراق النخيل ولحائها وحتى العظام ورقاع الجلد وصفائح المعادن، مرَّ الإنسان برحلته حتى وصل إلى دُرة وسائل حماية تدوينه: الورق.
تلك المادة الرقيقة التي تُصنَع عبر ضغط ألياف السيليلوز لتكون مسطحًا يكفي لحفظ العلوم والذكريات والآداب والأشعار والأنساب، فتبقيها خالدة.
صناعة الورق لدى المصريين القدامى
ابتكر المصريون القدامى أقدم طرق في القرن الثالث قبل الميلاد، عبر استخراجه من لحاء نبات البردي (Papyrus)، هذه النبتة التي توجد تحت الماء، والتي يمكن أن يصل عرضها إلى عرض كف الإنسان، ومنها اشتُقَّت كلمة (Paper) وتعني “ورق” بالإنجليزية.
كانت العبقرية في استغلال نباتٍ يتوافر بكثرةٍ مصر، لا سيما في مستنقعات الدلتا، وكانت طريقة التصنيع تتم عن طريق تقطيع لُبِّ البردي إلى شرائح طولية تُوضع بعضها فوق بعضٍ بشكلٍ متقاطع، ويُصنَع من ذلك طبقتان أو ثلاث، ثم تُبلَّل بالماء وتُضغَط تحت حجارةٍ مستوية وتُترَك في الهواء حتى تجف.
بعضها كانت صحائف قصيرة وفي بعض الأحيان كانوا ينتجون لفائف طويلة قد يتراوح طول الواحدة منها بين 15 و30 ذراعًا.
ومن مصر انتشر استعمال أوراق البردي فوصل إلى وإيطاليا، واستمرَّ لقرونٍ طويلة وسيلة الكتابة الوحيدة في الدول الثلاثة، حتى أنه عند الإسلامي لمصر كان بها سبعة مصانع لإنتاج أوراق البردي أو “القراطيس” كما أسماها القرآن، وبه كُتِبت العقود ومراسلات الدولة الرسمية، بل ومجموعة من النصائح المخطوطة على أوراق البردي محفوظة في دار الكتب المصرية، وظل مُستخدَمًا في مصر حتى عصر الدولة الإخشيدية.
الصينيون ثاني المُصنِّعين
في القرن الأول الميلادي، بدأ الصينيون تجاربهم لإنتاج الورق من سيقان نبات الخيزران (البامبو) المجوفة، وبعدها يُقوَّى بلحاء الشجر وقطع القماش، ثم يُدَقُّ كل هذا بعنايةٍ في مطاحن خاصة حتى يتحوَّل إلى عجينٍ يُضاف الماء إليه فيُصبح سائلًا لزج القوام، ثم يُنشَر فوق لوحٍ مسطح، ويُترَك في الشمس حتى يجف، وبعدها تحدث المرحلة الأخيرة؛ فيُضاف النشا والدقيق فوقه لصقله وتنعيمه، وبهذا كانوا يحصلون على ورقٍ جيد قابل للاستعمال.
ومن الصين انتقلت هذه الصناعة إلى جارتَيها كوريا واليابان، بعد أن نال ورقها شهرةً عالمية ظلَّت حديث الأرض لقرونٍ طويلة.
ورثت سمرقند هذه الصناعة عن الصين بدءًا من القرن الثامن الميلادي، وبعدما فُتِحت 94هـ على يد القائد المسلم قتيبة بن مسلم، كان من ضمن أسراه صُنَّاع ورقٍ صينيون، حثَّهم على تدوير تروس مصانعهم داخل سمرقند وتطوير صناعتهم عن طريق تخليص الورق من أية شوائب، وبدأت صناعة الورق الصيني أو “الكاغد” كما أسمته كتب التاريخ العربية في الدخول للحضارة الإسلامية.
العرب يصنعون الورق
أُنشِئت أول ورشةٍ لصناعة الورق داخل بغداد في عصر ، وتحت إشراف وزيره الفضل بن يحيى البرمكي، الذي أمر بإحلال ورق الكاغد محلَّ القراطيس البردية في الدواوين، وكان ذلك بين 172 – 178 هـ، وفي عام 795م افتُتِح أول مصنعٍ عربي للورق في بغداد.
استُعمِل القطن كخامٍ ملائم لهذه الصناعة، كما عني المسلمون بإدخال بعض التحسينات على الصناعة حتى يُقبل عليها الناس، فنقُّوا أفراخ الورق من الشوائب وجعلوها أكثر بياضًا.
ومن العراق بدأ “الكاغد” في الانتشار ببلاد الشام وحتى مصر، بلد ورق البردي، والذي دخل في منافسةٍ شرسة مع ورق الصين حاول فيها المقاومة ردحًا طويلًا من الزمن، حتى انتهى رسميًّا دور الوثائق البردية عام 323هـ، وردَّد المؤرخون مقولة: “إن كواغد سمرقند عطَّلت قراطيس مصر” لأنها كانت أحسن وأنعم وأرفق وأوفق.
ومن العالم الإسلامي تسرَّبت أسرار صناعة الورق إلى أوروبا عبر حدود التلاصق في إسبانيا وجزر البحر المتوسط؛ فعرفت مدينة جاتفيا الأندلسية إنشاء أول ورشةٍ لصناعة الورق عام 1150م، كما نجحت في تدشين أولى مصانعها لإنتاج الورق سنة 1276م، ومنها انتشرت فنون صناعة الورق في أوروبا.
تطوُّر صناعة الورق
أخذت صناعة الورق في العصر الحديث أهميةً كبرى، لا سيما بعد اختراع المطبعة، إذ بدأ الاهتمام بتصنيع أنواعٍ مختلفة من الورق تتباين من ناحية الأشكال والأوزان والاستخدامات، بعضها يُصنَع من القطن أو من القصب، وإن ظلَّت الأشجار هي المصدر الأول له بفضل ما تحتويه من ألياف السليلوز، المادة المفضلة لمُصنِّعي الورق لرُخصها وسهولة العثور عليها، وبلغ إنتاج الورق والكرتون في العالم عام 2014 قرابة 407 ملايين طن.
وتمرُّ صناعة الورق حاليًّا بثلاث مراحل؛ الأولى: تحويل المادة الأولى من الخشب إلى عجينة، ما يؤدي إلى تفريق الألياف عن بعضها، ثم تُغسَل وتُصفَّى من الشوائب، وبعدها تُترَك حتى تجف، ثم تُوضع العجينة في آلةٍ تضغطها وتُرقِّقها في شرائح إلى أن تُجمَع على هيئة (رُزم) صالحة للمرحلة الثانية من الصناعة، وهي “التلبيس”، وتتم عبر تمرير الورق على سلسلةٍ ميكانيكية تستخدم الحرارة والضغط لتمنح فرخ الورق نعومةً ولمعانًا أكثر، ثم المرحلة الأخيرة وهي القص والتغليف، ويُصبح جاهزًا نهائيًّا للبيع في الأسواق.
كما تدور بعض المحاولات الحديثة لمُحاولة إعادة استغلال بقايا الورق أو الكرتون في تصنيع ورقٍ جديد، إذ يُجمَع الورق القديم وتُزال بقايا الحبر عنه بغسله، ثم يُطحَن بكامله في آلةٍ عاجنة. بعد التخلص من البقايا غير المرغوب فيها، تتبقى عجينة كافية لصُنع المزيد من أفراخ الورق.
الآثار الناتجة من صناعة الورق
أدت وفرة الورق منذ القدم إلى حدوث طفرةٍ علمية تمثلت في تدوين كل العلوم والمعارف في شتى المجالات دون الخوف من ضياعها واندثارها، ما كسر الاحتكار القديم الذي كان يمارسه الأغنياء على المعارف، والتقاليد العتيقة التي كانت تُجبِر معُمِّري الهند –مثلًا- على تبادل العلوم شفويًّا، الأمر الذي انعكس على تطوُّر العملية التعليمية النظامية في شكل مدارس وجامعات ومعاهد عليا، جميعها حتى الآن تعتمد على الكتب الورقية في تعليم طلابها.
إلا أن لهذا التطوُّر بعض الجوانب السيئة أيضًا؛ فبجانب السباق المحموم الذي عاشته البشرية من خلال إبادة ملايين الأشجار من أجل صناعة الورق، فإنَّ للأخيرة أيضًا مُخلَّفاتها الضارة جدًّا بالبيئة، مثل المياه الملوثة الناتجة من صناعة لبِّ الورق، فلا تكتفي الصناعة باستهلاك كميةٍ كبيرة من المياه ولكنها تُخلِّفها ملوثةً بأخطر السموم التي لها بالغ الضرر على .