ماهية الحب وتعريفه
لقد خاض الكثير من العلماء في السيكولوجي و في توضيح مفهوم الحب والوصول إلى المغزى منه، وكيف أضحى هذا الحب ضروريًّا في هذه الحياة؟ وما تعريف الحب؟ وما الذي أتى به إلى الحياة؟ ما معناه وما مبتغاه؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة بطريقة علمية صحيحة وسلسة يجب تقصي هذا الموضوع بروح البحث العلمي وبعدِّه خبرةً انفعالية قد تكشف للسيكولوجي عن طابَعِها ومنشئها، وظاهرة مراوغة وفانتازية في بعض الأحيان مثل الحب يمكن النظر إليها بطريقة واقعية ورصينة.
وتفاديًا للخلط والتشويش يجب توضيح الفروق بين الحب والجنس كثيرًا حتى لا يظهران في أغلب الحالات كما لو أنهما الشيء ذاته!
لقد تعامل التحليل النفسي مع كلتا الظاهرتين بعدِّهما ظاهرة واحدة ولا تزال كذلك، ولم يحصل أي تقدم فيما يتعلق بتحليل منذ أن أعلن فرويد أنه ليس سوى جنس مكفوف الهدف، وهنالك سبب آخر لسوء الفهم الذي لا يقتصر على المحللين النفسانيين، وإنما يتقاسمه معهم غيره: إنه الخلط بين أن يكون المرء مُحبًّا أو محبوبًا، قد يبدو هذا الخلط مدهشًا لأن كلتا الحالتين تبدوان مختلفتين، وفي قصة قصيرة وردت في مجلة السبت الأدبية:
في ملجأ للأيتام كانت هنالك بنت صغيرة منفّرة إلى أبعد حد، وذات عادات سيئة وسلوك مستهجن عزلها عن أترابها، وكان الأطفال يتجنبونها ويكرهها المدرسون، أما القائمة على الملجأ فكانت تنتظر بلهفة مبررًا منطقيًّا كي تصرفها إلى المدرسة الإصلاحية، أو تطردها بطريقة ما، بعد ظُهر أحد الأيام بدا كما لو أن فرصة قد حانت لفصل الفتاة؛ وذلك بسبب فتاة كانت تقيم معها في الغرفة نفسها مُكرَهةً على ذلك قالت إن زميلتها في الغرفة تجري مراسلة سرية مع أحد ما من خارج الملجأ، قالت الفتاة: لقد رأيتها وهي تكتب الرسائل يوميًّا منذ أسبوع، وإلى الآن منذ برهةٍ أخذت الرسالة وأخفتها في شجرة قرب جدار القرميد! لم تكد المديرة ومساعدتها تستطيعان إخفاء سرورهما وذهبتا مسرعتين مع الفتاة إلى مكان الرسالة التي وجدت بين أغصان الشجرة، وانقضت المديرة عليها وقرأتها ثم هزت برأسها وناولتها لمساعدتها بصمت شديد! كان مكتوبًا فيها: “إلى كل من يجد هذه الورقة: أحبك!”
بالتأمل في هذه القصة، هل تعبّر الفتاة عن حاجتها لأن تحب أحدًا ما، كائنًا من كان! بالتأكيد لا؛ ففي الملجأ مئات من تحبهم ولكن المعنى الصحيح بالأحرى: “إلى كل من يجد هذه الورقة: أريد أن تحبني” أو ” أنا مستعدة لأن أحبك إذا بذلت نحوي قليلًا من العاطفة”.
فكل من يحب شخصًا ما يأمل بصورة واعية أو لا واعية أن يكون محبوبًا من هذا الشخص، وليس صحيحًا أبدًا أن هذه الاستجابة تشكل شرطًا للعاطفة، وإنما هي المكافأة المتوقعة التي يكافأ بها المرء على شعوره هو، وإن حبك للآخر ليس طريقة وحسب لكسب حب الآخر لك، وإنما هو هدفك أيضًا، وباتباع هذا الالتفاف يتم الوصول إلى الرغبة الأصلية، والتحرك نحو أن يكون المرء محبًّا إلى أمنيته أن يكون محبوبًا هو بالمقابل والمكسب.
لا تصبح ولادة الحب ممكنة إلا حين تضفي على شخص ما قيمة تفوق القيمة المضافة على شخص آخر، أو بالأحرى على كثير من الأشخاص، أما حين تعد شخصًا ما مساويًا لك، فكيف يمكنك أن تحبه؟ وما الذي يدفع الشخص للحب؟ والإجابة الصحيحة هي أن الحب لا يكون ممكنًا إلا حين تعزو إلى شخص آخر به قيمة أسمى من القيمة التي تعزوها إلى ذاتك، وحين تراه من نواحٍ محددة على الأقل شخصية متفوقة عليك!
ولعل دراسة الحب هي ضرب من الوهم، ولكن القيم الوهمية لها واقعها النفسي ، ولقد عانى ملايين البشر وماتوا من أجل هذه القيم الوهمية لآلاف السنين من تطور الحضارة، فالحب لا يكون ممكنًا إلا حين يُقوَّمُ الأفراد على نحو متباين، ولا توجد القدرة على تقويم البشر والحاجة إلى هذا التقويم إلا بعد بلوغ طور معين من تطور الحضارة وتطور الفرد.
الاستعداد الانفعالي
للإجابة عن السؤال، لماذا أضحى الحب ضروريًّا؟ لا بد من دراسة الحالة الانفعالية للشخص الذي لم يصبح محبًّا بعد لكنه سيصير! ذلك أن منطلقات واضحة ومحددة لا بد أن توجد داخل هذا الشخص فتجعله مستعدًا للغرام، فهناك سمات انفعالية كالشعور بالحنين أو القلق، أو الاستياء، وممكن أن تكون ظروفًا خاصة مثل أنه غير راضٍ عن ذاته أو عن عمله أو عن وضعه العائلي، وفي النهاية ممكن الاستنتاج أن الغرام ينمو على تربة عدم الرضا عن الذات.
إن القلق، والفزع، والاستياء الملحوظ قبل بزوغ الحب هي أعراض ثابتة في السيكولوجي، فإن السمة المشتركة في هذا الاستياء؛ وبالطبع فإن عمق المزاج يتنوع إلى أبعد حد من الاضطراب الخفيف إلى الضيق الحاد، ومن الانزعاج الذي نادرًا ما يُحس إلى الزلازل الانفعالية، لقد وقع روميو في حب جولييت كردِّ فعل مباشر على إخفاقه مع روزالين ، وقبل أن يلتقي جولييت كان ضحية لسوداوية عميقة.
الصراع مع الذات
الحب فرار من الذات، ترياق للنفور منه، وفي بعض الأحيان ترياق حتى لكره الذات التي يشعر به المرء، ويبدو لدى كل من يترعرع في نموذجنا الثقافي، وظهور هذا العامل الانتقادي الذاتي وتكرر ظهوره هو سمة لها دلالتها لدى الطموحين الذين يتشددون على أنفسهم بالمطالب، إن سوء ظن المرء بنفسه وعدم بها، والشعور بالنقص، والرغبة في ذات أفضل هي خطوات تمهيدية ضرورية لتطور الحب، الذي هو محاولة لإعادة توطيد تقدير المرء لذاته، أما إذا كنّا راضين عن أنفسنا، فلماذا ننشد ذاتًا أخرى أفضل ونسعى خلفها؟ الحب يعقب النفور من الذات، وهو يتلو الهمود وفي بعض الأحيان يتلو اليأس.
إن عدم الانسجام ضمن الذات مشروطٌ بمقارنة لا واعية بين الأنا الفعلي والشخص المثالي الذي نودُّ أن نكونه، والذي هو أكثر وسامة، وأفضل، وأذكى، وأشجع، وأكثر فاعلية مما نحن عليه، فإن الصورة الحلميّة للشريك المقبل تعيش وجودًا مريعًا، ومبهمًا، فالبشر جميعا في البدء يحبون الحب، والانتقال من الصورة المثالية إلى الواقعية هي طريقة يسيرة وغير حرجة خصوصًا للرجال.
يريد المحب أن يعانق محبوبته ويعاملها بحنان؛ لكن النزاعات اللاواعية الأولى هي الطمع، والرغبة في الاستيلاء عليها وامتلاكها، وإجبارها على أن تكون له وتشتد هذه الدوافع وتصبح أكثر إلحاحًا إذا ما قوبلت بفتور واقعي، أو مصطنع من المحبوب، ذلك أن المحب لا بد أن يشعر بشدة التعارض بين موقفه الانفعالي والموقف الفعلي الواقعي.
قال شاب في فتاة كانت تبدو متحفظة: “إنها تجعلني أشعر بالصغر وعدم الأهمية”، وقالت فتاة عن رجل: “كيف يجرؤ على مثل هذه الثقة بالنفس “، إن الإهمال البارد، وعدم الاهتمام الفاتر، والنأي، والتدمير الهادئ للواقع المفتون تفعل فعلها في الرجل لا باعتبارها منغصات تبعد عنه ما هو راغب به كلما حاول بلوغه وحسب؛ بل بعدِّه تحديًا يواجهه بالضغط، إن عدم تأثُّر الفتاة بالاهتياج والاضطراب اللذين يشعر بهما في داخله يوقظ لديه أمنية أن يغمرها برغبته الخاصة.
ولقد قالت فتاة: “لا أعلم أنني لا أريد أن أحبه، لكنني أتمنى أن لا أفكر فيه كثيرًا إلى هذا الحد”، في بعض الأحيان حتى من الوقوع في الحب يأتي متأخرًا جدًّا، أشبه بشخص في زنزانة ينتابه الذعر إذ يفكر أنه موقوف.
إن أثر الهجوم المضاد العنيف هو كنس المشاعر السلبية كلها، وانتصار الحنان والعاطفة، وسرعان ما يزول كل أثر يدل على أن الحب لم يحرز نصره إلا بعد معركة دامية ومريرة في العالم الداخلي.