سورة التحريم
سورة التحريم هي سورةٌ مدنيّة، وآياتها اثنتا عشرة آية، سميت بسورة التحريم، لتحريم النبي صلى الله عليه وسلم فيها شيئاً على نفسه، وافتتحَ الله تعالى السورة بمعاتبةِ نبيه -صلى الله عليه وسلم- على سبيل التلطف، أي عاتبه على إِتعاب نفسه والتضييق عليها من أجل مرضاة أزواجه، ثم وجَّه الله تعالى العتاب لبعض النبي -صلى الله عليه وسلم- بسببِ إفشائهن سر النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان قد أخبر به زوجته، فلما أخبر به زوجته حفصه، أخبرته للسيدة عائشة رضي الله عنها، مما جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم بتطليق أزواجه، فجاء في السورة أحكامٌ تشريعية تختص بأمَّهات المؤمنين، لكنها تعتبر نموذجاً ومثالاً لجميع نساء الأمة عليهن الالتزام به وترك إفشاء أسرار أزواجهن.وهبة الزحيلي، التفسير المنير، 28/300.
سبب نزول سورة التحريم
وجاء في سببِ نزول سورة التحريم، حديثين، وبناءً عليه تعددت أقوال في سبب النزول الصحيح بسبب هذين الحديثين مع عدم إمكانية التوفيق بينهما، فكانت أقوال العلماء تتردَّدُ بين أن سبب نزول سورة التحريم هي حادثة تحريم العسل، أم كون سببها حادثة تحريم الجارية، سيما وأنه رويَ حديثٌ آخر يتعلق بقضية العسل فكانت الأقوال على ما يلي:خالد بن سليمان المزيني، المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة، 2/1027.
القول الأول
من يُرجِّح أنَّ حادثة العسل هي سبب النزول وهذا القول الأول وقد اختاره من المفسِّرين ابن العربي والقرطبي ، وابن عاشور، ودليلهم في ذلك ما روته السيدة عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يجلسُ عند زوجته زينب بنت جحش، ويشرب عندها، فاتفقت السيدة عائشة والسيدة حفصة زوجتا النبي -رضي الله عنهما- أنه إذا دخلَ النبي -صلى الله عليه وسلم- على أحدهما تقولُ له إني أجد منك ريح مغافير، و”المغافير” هي نبتة كريهة الرائحة، أي صمغ حلو له رائحة كريهة من شجر العرفط في الحجاز، فدخل على واحدةٍ منهما فقالت له ذلك فقال: (لا بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود له)البخاري، صحيح البخاري، 6691، مسلم، 1474، النسائي، 3804، أبو داود، 3714. وزاد البخاري في روايته وقد حلفتُ لا تخبري بذلك أحداً، فحرَّم على نفسه شُرب العسل لأجل تلك الحادثة فأنزل الله تعالى آياته ليردعه عن ذلك ويكشف له ما حصل.
والحاصل أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يُحبُ العسل، وكان من بعد العصر يدخلُ على نسائه، فلما دخلَ على حفصة -رضي الله عنها- مكثَ عندها أكثر من المدة التي مكثَها عند باقي نسائه، فوقعت الغيرةُ في قلب عائشة -رضي الله عنها- فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأخبرها -عليه الصلاة والسلام- أنه كان قد أُهديَ لحفصة عسلاً وسقت منه النبي -صلى الله عليه وسلم- فاتفقت مع سودة بنت زمعة وهي الزوجة الثانية للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا اقترب منها تخبره بأن له رائحة المغافير، وتقول هي ذلك وصفيه أيضاً فإن قال أنه شربَ العسل عند حفصة، تقولُ له بل جرست نحلة العرفط، أي شربت المغافير، فلما دخل عليهن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلنَ ذلك، فلما عاد إلى حفصة -رضي الله عنها- وأرادت أن تُسقيه العسل فرفضَ ذلك، وامتنع عن شربه حتى قالت سودة واللَّه لقد حرمناه.
فمن قال بأن سبب النزول هي حادثة العسل، جمعوا بين الروايات بحملها على التعدد، فقال الحافظ ابن حجر: (وطريق الجمع بين هذا الاختلاف الحمل على التعدد فلا يمتنع تعدد السبب للأمر الواحد) إلا أن هناك اختلافًا بين الروايتين وقد ذكر ابن حجر العسقلاني حجج المُرجِّحين للرواية الأولى التي تقول بأن الساقية زينب، ومن هذه الاختلافات، في الروايتين أن الرواية الأولى جاء فيها ذكر سبب نزول سورة التحريم، أما رواية عروة عن عائشة فقد خلت من ذكر سبب النزول، وأن من اتفق من زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى هما عائشة وحفصة، بينما في رواية عروة بن الزبير هن عائشة، وسودة، وصفية، وساقية العسل في الرواية الأولى هي زينب بنت جحش، بينما الساقية في رواية عروة هي حفصة بنت عمر، وأما تحريم العسل فلم يقصد فيه رضا أزواجه وإنما تركه لرائحته.
القول الثاني
من قال بأن سبب النزول، كان تحريمه للجارية وليس العسل وهذا ما اختاره ابن عطية والقاسمي فذكرَ أيضاَ في سبب نزول سورة التحريم حديثًا آخر، والعمدةُ في معرفة سبب النزول هو النقل، فالمرجع لذلك هي الأحاديث المروية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث أخرجَ النَّسَائِي عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- (كانت له أَمةٌ يطؤها، فلِم تزل به عائشة وحفصة حتي حرمها فأنزل اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ .. )النسائي، سنن النسائي، 3969.
ومن رجَّح أن سبب نزول سورة التحريم ما جاء في رواية أنس -رضي الله عنه- في تحريم النبي -صلى الله عليه وسلم- جاريته، كان ذلك لصحة سند الحديث الذي استدلوا به، وتصريحه بالنزول، وموافقته لسياق القرآن، واختيار جمهور السلف له ومنهم ابن عبَّاسٍ، والحسن، وقتادة، والضحاك، ومسروق، والشعبي، وزيد بن أسلم، وعبد الرحمن بن زيد، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، ومقاتل ونسب هذا القول إلى الأكثرين من المفسرين.
القول الثالث
وما ذهب إليه الطبري والبغوي والسعدي من إطلاق القولين احتمالاً بلا تعيين، فقالوا بأن ما حرمه النبي -صلى الله عليه وسلم- كان شيئاً أحله الله له، فجائزٌ القول بأنه جاريته، وجائزٌ القول بأنه شُرب العسل، وجاز القول بغير ذلك، فهو حرَّمَ حلالاً وهذا الذي لا يجوز القول بغيره، فكان سبب معاتبةِ الله له هو أنه حرم على نفسه أمراً حلالاً، وخلاصة الأقوال كلها في سبب نزول سورة التحريم تصبُ في موضوعٍ واحد، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرمَ على نفسه أمراً مباحاً، ولا يجوزُ تحريم ما أباحه الله، ويرجع تعدد الأقوال في سبب نزول سورة التحريم إلى تعدد النقل والروايات في سبب نزول السورة.