شاعرات اوقدن الحروب

كان العرب قديمًا، في الجاهلية على حدٍّ سواء، معروفين ببلاغتهم وفصاحتهم، ونظمهم الشعر وامتلاكهم ناصيته.

وإن كانت الشهرة والغلبة للرجال في ذلك المجال، إلا أنَّ نساء العرب كانت لهن موهبة عظيمة في البيان وحسن القول والفكر، ولكن لم يشتهر من شعر النساء إلا القليل، لا سيما في مجال المعارك والحروب ويعد شعرهم ، ومن هنا سنعرض أشهر ما عُرِف في شعر حماسة النساء من العرب:

بنت ثعلبة .. وإدارة المعركة بالشِّعر

كانت صفية بنت ثعلبة الشيبانية، شاعرة قبيلة بني شيبان، معتزةً بنسبها الذي يعود إلى ربية بن نزار بن معد بن عدنان، فخورةً بقومها وشجاعتهم.

وعندما استنجدت بها هند بنت النعمان لتُجيرها من كسرى، الذي كان يريد أن يتزوجها غصبًا، ولتُنجدها من جيوشه، وأباح دم كل من يُخفيها عنه، هبَّت صفية تدعو قومها بني شيبان إلى محاربة الفرس، بأبياتٍ بليغة تقول فيها “أحيوا الجوارَ فقد أماتته معًا .. كل الأعارب يا بني شيبانِ،
وَعَلى الأكاسرِ قَد أجرتُ لحرَّةٍ .. بِكهولِ مَعشرنا وبالشبَّانِ”.

وقد نُسِب إلى صفية دور كبير في الإسهام بهذه الحرب على العجم، إذ كانت هذه القصيدة هي البداية لعددٍ من القصائد التي كانت تُحرِّض فيها أهلها، فبعد هذه الأبيات الأولى تأهب بنو شيبان وحاربوا جيوش كسرى وهزموهم. لكنَّ الحرب لم تسكُن؛ فبعدها ردَّ عليهم الهجومَ جنودُ العجم، واستمرَّت الحرب بين كرٍّ وفرّ. كل ذلك وهي لا تزال تنظُم الشعر لتُحمِّس أهلها وتحُثهم على الصبر والثبات في قولها: “أني أجرت بكم يا قوم فاصطبروا .. فالصبر يحلُل فوق الأنجم الزهر”.

قد يهمك هذا المقال:   تصنيف افضل رويات عربية في التاريخ

لُقِّبت صفية بنت ثعلبة بـ(الحجيجة) لقوة منطقها وعظمة مناقبها وعزة نفسها، بل إنها كانت حكيمة قبيلتها والشقيقة الكبرى لفارس القبيلة عمرو، الذي قاد الجيش وانتصر على جند كسرى.

الحُرقة .. أشعلت بجمالها حروبًا

كانت هند بنت النعمان والملقبة بـ(الحُرقة) السبب الرئيسي الذي قامت لأجله حرب العرب والفرس في (ذي قار)؛ فهي الشاعرة المخضرمة، ذات الجمال الفتَّان واللسان الفصيح، والحُسن المبدع الذي وصل إلى أسماع ملك كسرى، فأرسل إلى والدها ليتزوجها، إلا أنَّ والدها النعمان بن المنذر رفض أن يزوجها بأعجمي، ففتك به ملك كسرى، وفرَّت هند هاربةً تسأل العرب الحماية من الملك الأعجمي.

ولما أباح ذلك الملك دم من يحميها، لم تجد من قبائل العرب من يُجيرها، فهامت في البادية تَرثي همة العرب: “لم يبقَ في كل القبائل مطعم .. لي في الجوار فقتل نفسي أعود”. ولم ينجدها من ملك كسرى إلا قبيلة بني شيبان.

قامت الحروب بين بني شيبان والعجم، واستمر الكرُّ والفرّ، وعندما قاد عمرو بن ثعلبة قيادة جيش العرب في إحدى المعارك ضد ملك كسرى، راحت هند تحمِّسه بشعرها: “حافظ على الحسب النفيس الأرفعِ .. بمدجَّجين مع الرماح الشرَّعِ،
وصوارم هندية مصقولة .. بسواعد موصولة لم تمنعِ،
واليوم يوم الفصل منك ومنهم .. فاصبر لكلِّ شديدةٍ لم تدفعِ”.

وبالفعل انتصر عمرو بجيشه على جنود كسرى، فأنشدته عندها: “رغمنا بعمرو أنف كسرى وجنده .. وما كان مرغومًا بكلِّ القبائل”.

زرقاء .. ليت القوم يُصدِّقون

من منَّا لا يعرف القصة الشهيرة لزرقاء اليمامة، تلك الشاعرة نافذة البصر من بني جديس، التي تداولت حكايتها كتبُ العرب المختلفة، إذ ذُكِر أنها امتلكت من قوة البصر ما كانت تستطيع أن ترى به على بعد مسيرة ثلاثة أيام، حتى قيل في المثل “أبصر من زرقاء”.

قد يهمك هذا المقال:   أدباء فلاسفة

رأت زرقاء ذات ليلةٍ أشجارًا تتحرك ومن خلفها بشر، فأسرعت إلى قومها تُحذِّرهم من هجوم الأعداء على المدينة، وتدعوهم إلى التبكير في ردِّ هجومهم قائلةً:
“خذوا حذركم يا قوم ينفعكم .. فليس ما قد أرى بالأمر يُحتقَرُ، إني أرى شجرًا من خلفها بشر .. وكيف تجتمع الأشجار والبشرُ، ثوروا بأجمعكم في وجه أولهم .. فإنَّ ذلك منكم فاعملوا ظفرُ”

إلا أنَّ قومها لم يُصدِّقوها وسخروا منها، حتى هاجمهم العدو ودمَّروا مساكنهم، أما زرقاء فقد دفعت ثمن هبتها، عندما اقتلع قائد جند الأعداء عينيها خوفًا من نفاذ ذلك البصر، فماتت بعدها بثلاثة أيام.

بنت الطارق .. فصاحة وشدة بأس

هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، وأم الخليفة معاوية بن أبي سفيان، وُصِفت في كتب العرب بأنها سيدة ذات بأس، تمتلك قدرًا واسعًا من الجمال والفصاحة والبلاغة والفروسية وقوة الشخصية.

في غزوة بدر قُتِل أخوها الوليد وأبوها عتبة بن ربيعة على يد أسد الله حمزة بن عبد المطلب، فأجَّرت بعدها عبدًا وحشيًّا ووعدته بحريَّته إذا قتل حمزة في الغزوة المقبلة. ولم تكتفِ بذلك، بل تقدَّمت صفوف قريش في غزوة أحد تحثُّهم بشعرها للانتقام من المسلمين:
“نحن بنات طارق .. نمشي على النمارق
إن تُقبلوا نعانق .. ونفرش النمارق
أو تُدبروا نفارق .. فراق غير وامق”

وعندما استشهد حمزة بن عبد المطلب عم النبي في غزوة أحد مثّلت بجسده، ومضغت قطعةً من كبده، ونظَمت بعدها قصيدة (شفيت من حمزة نفسي بأُحد):
“شفيت من حمزة نفسي بأحد،
حتى بقرت بطنه عن الكبد،
أذهب عني ذاك ما كنت أجد،
من لذعة الحزن الشديد المعتمد”

وقد هدى الله هند بنت عتبة إلى الإسلام بعد فتح مكة، لتكون من أهم الصحابيات في الإسلام، وتخوض بعدها مع المسلمين معركة اليرموك.

قد يهمك هذا المقال:   شعراء العصر الأندلسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *