قيلَ عن شعره إنَّ الطيور تُغرِّد من رقة كلماته، وأبياته قيثارة لأعذب الألحان، فصاحب البيت الشهير “إذا الشعب يومًا أراد الحياة، فلا بدَّ أن يستجيب القدر”، كان رغم جسده الهزيل رقيق الحسِّ، عزيز النفس، ثائر الروح. هو شاعر الخضراء أبو القاسم الشابي، الذي لم يتجاوز عمره ربع قرنٍ في الدنيا، إلا أنَّ كلماته ومشاعره أصبحت وقودًا للثورات ولحنًا لإرادة الحياة رغم الداء والفناء.
نشأة أبي القاسم الشابي
في عام 1909، وتحديدًا في يوم 23 فبراير، وُلِد أبو القاسم الشابي في بيتٍ متديِّن ومثقَّف، بقريةٍ صغيرة في محافظة توزر بالجنوب التونسي تُدعى الشابة، وكان والده محمد بن القاسم الشابي قاضيًا شرعيًّا درس في الأزهر الشريف، فكان هذا البيت بدايته للنبوغ؛ إذ درس أبو القاسم اللغة العربية في مدينة قابس جنوب ، وحفظ القرآن الكريم كاملًا وهو في التاسعة من عمره، وكان والده دائمًا ما يساعده في تعلُّم أصول اللغة العربية والدين.
بلغ أبو القاسم الشابي في عام 1920 الثانيةَ عشرة من عمره، فبعثه والده إلى العاصمة التونسية ليُواصل تعليمه في الكلية الزيتونية، وكان أبو القاسم نهِمًا، فلم يكتفِ بالكتب التعليمية ولا دراسته الجامعية، بل كان يطَّلع على الأدب العربي قديمه وحديثه، بالإضافة إلى اطلاعه على ترجمات الأدب الأوروبي، وارتياده لمجالس الفكر والأدب في تونس، فكان عضوًا في النادي الأدبي بقدماء الصادقية، وفي هذا النادي تطورت موهبته في كتابة الشعر وإلقاء المحاضرات. ومن أشهر الكتب التي قرأها وساهمت في تكوينه كتاب الأغاني، وكتاب المثل السائر، ودواوين الشعر لكلٍّ من أبي العلاء المعري وابن الفارض وجلال الدين الرومي.
وفي عام 1928 مُنِح أبو القاسم الشابي شهادة التطويع من الكلية الزيتونية، والتي تُعدُّ من أعلى الشهادات الموجودة بها، ثم اتجه بعدها إلى دراسة الحقوق، ليتخرَّج في عام 1930.
بدايته الأدبية والشعرية
بدأت مسيرة أبي القاسم الشابي الأدبية في العاصمة التونسية، فكان يرتاد المكتبات ليطَّلع على الأدب العربي والغربي، وكانت أولى محاضراته الأدبية في فبراير 1929 بمكتبة الخلدونية، والتي حاضر الشابي فيها عن الخيال الشعري عند العرب قديمًا وحديثًا في جميع البلاد، لتكون هذه المحاضرة انطلاقةً له يصبح بعدها تابعًا لمجلس جمعية الشبان المسلمين.
آمن أبو القاسم الشابي بضرورة التجديد في الشعر وتحريره من الشكل النمطي القديم، لإضفاء الحياة على روحه وتوسيع آفاق الجمهور العربي واحترف . وفي محاضرةٍ له بمكتبة الصادقية قال منتقدًا جمودَ الشعر العربي: “إنَّ الأدب العربي غني بالخيال الصناعي أو الخيال المجازي، وهو خيال المجاز والاستعارة والتشبيه، وغيرها من براعات الألفاظ والتعابير التي أشبعتها البلاغة على اختلافها بحثًا ودرسًا، ولكنَّ هذا النوع من الخيال المألوف إن دلَّ على بعض نواحٍ خاصة من روح الأمة، لا يدلُّ على مقدار شعورها بتيَّار الحياة كعضوٍ حي في هذا الوجود”. فدفعت هذه الكلمات أبا القاسم الشابي إلى مواجهة العقليات الأدبية الجامدة في تونس والوطن العربي كله، وكان تحمسه للتجديد والاستفادة من خبرات الغرب بمنزلة حربٍ عليه، فانتقده الكثير من المحافظين، ودعوا إلى مقاطعته، مما أثر فيه بطريقةٍ سلبية، ظهرت في بعض أشعاره.
مؤلفات أبي القاسم الشابي
اتسمت أشعار أبي القاسم الشابي بروح الثورة ورقة الكلمات والمشاعر، وكانت له كتبٌ ودواوين عديدة، من أشهرها ديوان (أغاني الحياة)، وكتاب (الخيال الشعري عند العرب)، كما كان له الكثير من القصائد الوطنية والثورية التي ظهر فيها التمسك بإرادة الحياة، ومن أشهر قصائده قصيدة (لحن الحياة)، التي صارت لحنًا يتغنى به الشباب العربي في ثوراته، ويقول فيها: “إذا الشعب يومًا أراد الحياة .. فلا بدَّ أن يستجيب القدر، ولا بدَّ للَّيل أن ينجلي .. ولا بدَّ للقيد أن ينكسر”. وقد أجمع النقاد على تميُّز هذه القصيدة تحديدًا من بين دواوينه الشعرية المتعددة.
وحزنًا على وطنه المحتل، نظَم أبو القاسم الشابي قصيدةً يدعو فيها الأمة العربية إلى الثأر لكرامتها من الظالمين والمحتلين، وأسماها (زئير العاصفة)، وذكر فيها: “ألا أيها الظالم المصعِّر خده .. رويدك إنَّ الدهر يبني ويهدمُ، سيثأر للعز المحطم تاجه .. رجال إذا جاش الردى فهُم همُ”. وعندما اشتدَّ مرض القلب على شاعر الخضراء، لم ينحنِ، بل تحدَّى المرض بقصيدته “نشيد الجبَّار” قائلًا فيها: “سأعيش رغم الداء والأعداءِ .. كالنسر فوق القمة الشمَّاءِ، أرنو إلى الشمس المضيئة هازئًا .. بالسُّحْبِ والأمطار والأنواءِ”.
ولم يقتصر في قصيدته (نشيد الجبَّار) على تحديه للمرض والأعداء، بل تحدَّى فيها أيضًا تقلبات الدهر التي واجهته وحاولت أن تمنعه من تحقيق آماله، فقال: “وأقول للقدر الذي لا ينثني .. عن حرب آمالي بكلِّ بلاءِ، لا يُطفئ اللهب المؤجج في دمي .. موج الأسى وعواصف الأرزاءِ، فاهدمْ فؤادي ما استطعت فإنه .. سيكون مثل الصخرة الصمَّاءِ، لا يعرف الشكوى الذليلة والبكا .. وضراعة الأطفال والضعفاءِ”. وقال أيضًا في القصيدة نفسها مُتغنيًّا بمعاني حبِّ الحياة: “أسير في دنيا المشاعر حالمًا .. غرِدًا وتلك سعادة الشعراءِ، أصغي لموسيقى الحياة ووحيها .. وأُذيب روح الكون في إنشائي، وأصيح للصوت الإلهي الذي .. يحيي بقلبي ميِّت الأصداءِ”.
أما الحب فكان يراه الشابي مقدَّسًا، يسمو فيه بمشاعره، فكتب (صلوات في هيكل الحب) يشدو فيها لحبيبته قائلًا: “يا ابنة النور إنني أنا وحدي .. من رأي فيكِ روعة المعبودِ، فدعيني أعيش في ظلِّك العذبِ .. وفي قرب حسنكِ المشهودِ، عيشة للجمال والفن والإلهامِ .. والطهر والسنى والسجودِ”.
انتمى أبو القاسم الشابي إلى مدرسة أبولو، كمدرسةٍ شعرية، وفي عام 1933 نُشِرت قصائده في مجلتها (مجلة أبولو) بالقاهرة، ولاقت ترحيبًا كبيرًا.
وفاة أبي القاسم الشابي
أُصيب أبو القاسم الشابي بمرض القلب منذ ولادته، فعانى منه وكافحه سنواتٍ طويلة حتى غلبه المرض عام 1934، فدخل إلى مستشفى الطليان بتونس مريضًا مُتعَبًا، وخرج منها جثةً هامدة في الخامسة والعشرين من عمره، ونُقِل جثمانه إلى مدينة توزر ليُدفَن هناك حيث وُلِد، وأقامت له تونس ضريحًا لتخليد ذكرى شاعر الحياة والحبِّ والثورة.