“لبيك لبيك يا سرِّي ونجوائي .. لبيك لبيك يا قصدي ومعنائي”
الحب الإلهي هي الكلمة التي يتغنَّى بها الصوفيون -أو المتصوفون- في أشعارهم، فينظُمون القصائد والأشعار يتودَّدون فيها إلى الله ويصفونه ويُسبِّحونه، فالشعر هو قولهم البليغ الذي يصف ما في أرواحهم من عشقٍ للذات الإلهية وهي صفات لا تتوافر عادة في المدارس والأنواع الأخرى مثل .
وفي هذا التقرير نستعرض معًا أهم شعراء المتصوفة، وأجمل ما قالوه في العشق الإلهي:
جلال الدين الرومي .. مولانا
هو محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين البلخي، المعروف بمولانا جلال الدين الرومي، من أشهر شعراء المتصوفة، والتي تُنسَب إليه رقصة الصوفيين الشهيرة (المولوية)، حيث الموسيقى والذكر والدوران وسيلة للارتقاء الروحي والقرب من الله. وجلال الدين الرومي هو شاعر وفقيه مُتصوِّف، وُلِد في أفغانستان، ثم انتقل مع أبيه إلى بغداد، بعدها ذهبا في رحلةٍ مرَّا فيها بعدة دولٍ قبل أن يستقرَّا في قونية.
كان مولانا جلال الدين يتسم بالتسامح والتفكير المرن، مما جذب إلى الإسلام عددًا كبيرًا من الناس الذين أُعجبوا بهذا الدين السمح، والحث على الخير والإحسان. وككلِّ الصوفيين آمن الرومي بوجوب الحب لله كشرطٍ مع التوحيد، ووضَّح ذلك في عددٍ من الكتب والمؤلفات بالعربية والفارسية.
ومن أشهر مؤلفاته (المثنوي) أو (مثنويه معنوي) بالفارسية، الذي يُعدُّ من أهم الكتب في الشعر الصوفي، و(الديوان الكبير) أو (ديوان شمس التبريزي)، وهو ديوان شهير كتبه بعدما فقد معلمه وصديقه شمس التبريزي كذكرى لموته، ويضم الديوان 50 قصيدةً نثرية، و40 بيتًا من الشعر.
أما عن قصائده، فهو الذي كتب القصيدة الصوفية (أنين الناي)، التي يذكر فيها: “أنصت إلى الناي يحكي حكايته، ومن ألم الفراق يبث شكايته: مُذ قطعت من الغاب، والرجال والنساء لأنيني يبكون، أريد صدرًا مِزقًا مِزقًا برَّحه الفراق، لأبوح له بألم الاشتياق”.
محيي الدين بن عربي
يُعرَف بالشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، وهو واحد من أكبر المتصوفة و المسلمين وأشهرهم على مرِّ العصور. وُلِد في مرسية بالأندلس وعليه فهو من ، وبعدها انتقل إلى إشبيلية. عُرِف عنه الزهد والتصوف والورع، إذ نشأ في جوٍّ ديني ساعده على حفظ القرآن بقراءاته السبع في سنٍّ صغيرة، بالإضافة إلى معرفته بكتب الحديث والفقه.
بدأ محيي الدين بن عربي يتجه إلى الطريق الروحاني ويسلك مسلك المتصوفة وهو في العشرين من عمره، فكتب أشهر الكتب وأغربها، ومن كتبه التي أثارت الجدل (الفتوحات المكية) و(فصوص الحكم).
ومحيي الدين بن عربي شاعر كبير من شعراء المتصوفة، له ديوان في الشعر الصوفي يضم عددًا من القصائد في حب الذات الإلهية الخالصة، ومن هذه القصائد قوله: “سبحان من كوَّن السماء .. والأرض والماء والهواء، وكوَّن النار أسطقسًّا .. فاكتملت أربعًا وفاء، صعد ما شاءه بخارًا .. وحلَّل المعصرات ماء”، من قصيدة (سبحان من كوَّن الكون).
وأيضًا قصيدته (شمس الهوى في النفوس لاحت)، التي يقول فيها: “يا حب مولاي لا تولَّ .. عني فالعيش لا يطيبُ، لا أنس يصفو للقلب إلا .. إذا تجلَّى له الحبيبُ”.
ابن الفارض
عمر بن الفارض، أو سلطان العاشقين كما يُعرَف عنه، من الشعراء الصوفيين المولد والموطن والوفاة، إلا أنه حموي الأصل. بدأ طريق الصوفية وهو لا يزال شابًّا مع أبيه بإرشادٍ من شيخه، فقضى شبابه في الزهد والعبادة والتقشف.
وابن الفارض من أشهر الشعراء المتصوفين وأعذبهم لسانًا وشعرًا، له ديوان صغير مميز في العشق الإلهي، يُعدُّ من أفضل الدواوين العربية موضوعًا وأسلوبًا، فيه قصائد متنوعة بين الحب والهوى والخمر، وبين الحب الإنساني والحب الإلهي الخالص.
ومن أروع قصائد ابن الفارض: “أنتم فروضي ونفلي .. أنتم حديثي وشغلي، يا قبلتي في صلاتي .. إذا وقفت أُصلِّي، جمالكم نصب عيني .. إليه وجَّهت كُلِّي، وسركم في ضميري .. والقلب طور التجلي”.
هذا بالإضافة إلى بقية القصائد المميزة كقصيدة (زدني بفرط الحب فيك تحيرًا .. وارحم حشًى بلظى هواك تسعَّرا)، وقصيدته التي مطلعها: “أعد ذكر من أهوى ولو بملامِ .. فإنَّ أحاديث الحبيب مدامي، كأنَّ عذولي بالوصال مبشري .. وإن كنت لم أطمع بردِّ سلامِ”.
الحسين بن منصور الحلاج
من لم يسمع من قبلُ عن الحلاج، ذلك الشاعر الصوفي الذي أثار حوله جدلًا كبيرًا بين العلماء والفقهاء فاتهموه بالزندقة، وأحلُّوا دمه، فمضى يمشي في الشوارع منشدًا: “اقتلوني يا ثقاتي .. إنَّ في قتلي حياتي، وحياتي في مماتي .. ومماتي في حياتي”.
ويُعدُّ الحلاج من أعلام التصوف. وُلِد في بلدة البيضاء في بلاد فارس، ثم جاء مع والده إلى ، وكان والده يعمل بحلج القطن فسُمِّي بالحلاج. حرص الحلاج على تطوير معنى التصوف، فلا يشمل فقط الصفاء الروحي مع الله، بل جعله معنيًّا بالجهاد ضد الظلم والطغيان في النفس والمجتمع.
وقد كان الحلاج يؤمن بإمكانية اتحاد الذات الإلهية مع الذات الإنسانية، إلا أنَّ هذه المعتقدات العريبة لما عُرضِت في محكمة الدولة العباسية كفَّروه وأعدموه في ساحة الإعدام عند باب خراسان ببغداد.
وللحلاج قصائد كثيرة ومميزة عن العشق الإلهي، منها ما يقول فيها: “وأيُّ أرضٍ تخلو منك حتى .. تعالوا يطلبونك في السماءِ، تراهم ينظرون إليك جهرًا .. وهم لا يُبصرون من العماءِ”. بالإضافة إلى واحدةٍ من أجمل قصائده، لحَّنها الفنان عمر خيرت، ويقول فيها: “والله ما طلعت شمس ولا غربت .. إلا وحبك مقرونٌ بأنفاسي، ولا خلَوت إلى قومٍ أحدثهم .. إلا وأنت حديثي بين جُلَّاسي، ولا ذكرتك محزونًا ولا فرحًا .. إلا وأنت بقلبي بين وسواسي”.