ترتبط القراءة بتبادل المعرفة وحفظ المعلومات، فلم يعُد العلم محفوظًا في صدور العلماء، ولم يعُد يتطلَّب السفر لمُقابلة المختصِّين حول العالم، بل تتوافر المعلومات في الكتب ومصادر المعرفة، منسوبةً إلى أصحابها، وحيةً حتى بعد وفاتهم.
كلما قرأ الإنسان ازداد علمًا بجهله، وتعاظمت لديه الرغبة في معرفة المزيد، ولأنَّ عصر التقدُّم التكنولوجي يتميز بالسرعة فالجديد من المعلومات أصبح متوافرًا دائمًا، والأبحاث والاكتشافات تتوالى فتُصبح المعرفة السابقة قديمةً بحاجةٍ إلى المواكبة والتجديد، ممَّا يجعل القراءة عمليةً مهمة ومطلوبة باستمرار.
يربط الباحثون في الشأن الإسلامي بين نهوض الأمة الإسلامية والعودة إلى القراءة؛ ففترات التقدم العلمي والحضاري ارتبطت تاريخيًّا بالحركة النشطة في القراءة والتعليم والتأليف، ويشهد واقع الأمم الآسيوية -كاليابان وكوريا- على هذا الارتباط الوثيق بين معدلات القراءة والتقدم.
كما ارتبطت الوظائف اليوم بالمعرفة العالية، والشهادات المتقدمة، والميل الدائم إلى القراءة والتعلُّم؛ فمن لا يقرأ ولا يتطوَّر لا يستطيع أن يكون جزءًا من شركاتٍ تخوض غمار المنافسة المحلية والعالمية، وتسعى كل يومٍ إلى أن تكون أفضل، وسريعًا، سيأتي من يحلَّ محلَّه ويؤدي إلى إقصائه.
ليست القراءة ترفًا بل ضرورة
تظهر في المجتمعات عديمة القراءة سمات مثل رفض الجديد، والتمسُّك بالمألوف، واعتبار القراءة نوعًا من الترف يخُص البعض، واعتناق بعض المعتقدات الخرافية والتعلُّق بها، وتكون مثل هذه البيئات طاردةً للمتميزين والمتنورين من أبنائها، فيختارون الانتقال إلى بلدانٍ أخرى، فتخسر هذه المجتمعات الأشخاص المؤثرين والفاعلين في عملية التغيير.
ولأنَّ الإسلام دين حضاري يتبنَّى المنهج المعرفي، فإنَّ قلة القراءة والاطلاع تولد أشكالًا من التديُّن المغلوط، وتؤدي بالنصوص الدينية إلى أن تتحول إلى الفهم الضيِّق والتطبيق المُتزمِّت، دون مراعاةٍ لروح الإسلام القائمة على التسامح والتعايش وقبول الآخر.
ومن لا يقرأ لا يخرج من حدود برمجته البيئية والاجتماعية، ولا يكون قادرًا على رؤية العالم باتساعه، ولن يكتسب الكثير من المهارات الجديدة والسلوكيات الراقية، فعقله لم ينفتح يومًا على تجارب سوى تجاربه، بينما توفر القراءة تجارب ثرية يخوضها الإنسان وإن لم يغادر غرفته أو منزله، فيتكوَّن لديه اتصال بالعقل الجمعي والذاكرة الجمعية، ويُصبح جزءًا من الإنسانية وليس فقط جزءًا من مجتمعه الصغير.
الإنترنت وآفاق أرحب للقراءة
بينما لا يزال الكتاب الورقي في المجتمعات الغربية والشرق آسيوية محافظًا على مستويات إقبالٍ عالية رغم منافسة ؛ تشتكي دور النشر العربية من الإقبال الضعيف على قراءة الكتب الورقية، وتشتكي مواقع بيع الكتب العربية على من ضعف الإقبال على شراء الكتب الإلكترونية، ويرجع ذلك إلى الكثير من العوامل، منها ما هو ، فغالب المجتمعات العربية تُوجِّه مصروفاتها نحو متطلبات الحياة اليومية، كتكاليف السكن والتنقُّل والتعليم والصحة، فلا يبقى لدى أفراد الأسرة فائض يُوجِّهونه لشراء الكتب، أما العوامل الأخرى فيُمكن أن تشمل العزوف عن القراءة، وضيق الوقت، إضافةً إلى أن ثقافة الشراء عن طريق الإنترنت لم تصبح معتادةً لجميع العرب بعد.
وإذا أُتيحت إحصائيات عن تداول الكتب المتوافرة على الإنترنت بشكلٍ مجاني، سواءً كان ذلك مراعيًا لحُقوق النشر أو مخالفُا لها، فإننا سنجد معدلات قراءةٍ عالية لم يرصُدها أحد، فقد وفَّر الإنترنت عالمًا سحريًّا لمُحبِّي القراءة استطاعوا من خلاله قراءة كل ما رغبوا يومًا في قراءته، مع قوائم ممتدة للقراءة المستقبلية، ويُضاف إلى ذلك المراجع المتخصصة في مختلف المجالات الطبية منها والهندسية والاجتماعية والاقتصادية، والتي استعاض بها طلاب المرحلة الجامعية وفوق الجامعية عن شراء المراجع، التي عادةً ما تكون مرتفعة التكلفة، وقد يصعب توافرها في جميع المناطق والمدن.
ولا يُستبعَد أن يكون ذلك أحد أسباب الإقبال الكبير على الدراسات العليا في مختلف البلدان العربية، فحتى الأبحاث السابقة في الموضوع المطروح أصبحت متوافرةً في مواقع الجامعات بصيغة (PDF)، ويُمكن تحميلها للاطلاع عليها والاستفادة منها، بالإضافة إلى خيارات التواصل المتعددة التي أصبحت متاحةً بين الطالب والمشرف، والتي تتضمَّن إرسال نسخةٍ محدثة من البحث يحدد المشرف التعديلات المطلوبة عليها ويُعيد إرسالها، في سلاسةٍ وسرعة لم يسبق لهما مثيل، فقد كانت تعديلات المشرفين تعني إعادة الطباعة في كل مرة، وهو أحد صعوبات الأبحاث في السابق.
مستويات القراءة
ليست جميع تستحق بذل وقتٍ كبير في قراءتها قراءةً متأنية، لذلك فمن المهم تعلُّم ، التي تجعل القارئ يستخلص أهم ما في الكتاب في وقتٍ وجيز دون أن يقف عند كل كلمةٍ مكتوبة، وتعتمد القراءة السريعة على عدم العودة إلى السطور أو الفقرات السابقة للتأكد من فهمها، بل المرور على كامل النصِّ مرةً واحدة فقط، ويُمكن استخدام طريقة تمرير الإصبع أو المسطرة على السطور بسُرعةٍ كبيرة، الأمر الذي تُضطَر العين إلى متابعته، وتُفيد عملية تتبُّع اليد أو المسطرة أيضًا في شدِّ انتباه القارئ، وعدم السماح له بالشرود أو النعاس أو الانشغال بأمرٍ آخر.
ويُمكن استخدام نظام القراءة التلقائية على متصفحات الكتب الإلكترونية مثل (Adobe reader)، على أن تُحدَّد سرعة عالية تجعل السطور ترتفع على الشاشة سريعًا وتتبعها العين دون إمكانية الرجوع إلى الوراء.
ليست القراءة السريعة مناسبةً لجميع الكتب، فالقراءة لغرض التعلُّم تحتاج إلى قراءةٍ متأنية، لأنها تستعمل مهاراتٍ أخرى كالربط بين المعلومات الحالية والسابقة، وتحليل المعلومات المكتوبة واستخلاص النتائج منها، وأخذ الملاحظات، وغيرها، مع إمكانية التدرُّب على جعل القراءة أسرع من ما هي عليه عمومًا، حتى لو لم يكُن ذلك بسرعةٍ كبيرة، كتلك التي تقرأ بها الكتب غير المهمة.
وتُعرَف القراءة المتعمقة في الكتب المهمة بالقراءة التحليلية، فلا يكتفي القارئ بتلقي المعلومات، بل يُكوِّن رأيه بشأن الكتاب، وقُدرته على الإحاطة بجميع جوانب الموضوع، وعوامل القوة والضعف فيه، فلم يعُد دور القارئ سلبيًّا محصورًا في مجرد التلقِّي والتقبُّل التامِّ للموجود في الكتب، ولأنَّ هذا النوع من القراءة ليس سهلًا، فإنَّ استخدامه ينحصر في الكتب المهمة التي تصبُّ مباشرةً في اهتمام القارئ لكونها مجاله الدراسي أو أحد متطلبات عمله أو أبحاثه.
وكثيرًا ما يتحكَّم نوع الكتاب في طريقة قراءته، فالموسوعات والمراجع الضخمة والمعاجم ليست للقراءة المتواصلة، بل يُرجَع إليها عند الحاجة إليها في جزئيةٍ معينة، وهناك كتب تُقرأ لمرةٍ واحدة ولا يشعر قارئها بالحاجة إلى العودة إليها مرةً أخرى، وربما كانت هناك بعض المعلومات التي كتبها القارئ على ورق الملاحظات أو ملفِّ كتابةٍ إلكتروني، بينما تمتلك بعض الكتب القدرة على جذب قارئها إليها مراتٍ متعددة، وفي كل قراءةٍ يشعر أنه قد اكتشفت فيها جمالياتٍ لم يكُن قد لاحظها أو انتبه إليها، وتظل تبعث فيه الشعور الرائع نفسه، ومن أمثلة هذه الكتب الروائع الأدبية، أو أي كتابٍ أحبه قارئه ووجد فيه ما كان يبحث عنه ومع كل هذه العوامل تبقى راسخة وغير متأثرة بأي شيء.
ويبقى أعظم الكتب السماوية، والذي كلما عاد إليه قارئه وجد فيه بلاغةً معجزة، ولمحاتٍ بيانية رفيعة، وعلم ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة.