ذاكرة الجسد
تتصدَّر رواية (ذاكرة الجسد) لأحلام مستغانمي قائمة الروايات التي ينصح بقراءتها النقَّاد والأدباء وروَّاد على اختلاف ثقافاتهم، ف ليست مناسبةً لأعمارٍ دون غيرها كما يُوحي اسمها، بل هي مناسبة لكلِّ الأعمار والأذواق على حدٍّ سواء. كما تُعدُّ الاقتباسات المأخوذة من هذه الرواية هي الأعلى والأكثر تداولاً، وهي اقتباسات تُشير إلى عمق ما احتوته وروعته، فهي رواية لم تستطع كاتبتها نفسها أن تكتب مثلها ثانية.
كتبت أحلام مستغانمي (ذاكرة الجسد) في عام 1993. كاتبة تبلُغ من العمر آنذاك عشرين عامًا، يستهويها الشعر فتتذوَّقه وتكتبه وتُلقي أبياتًا منه في حلقات برامجها الإذاعية، التي كانت البداية لتعلُّق القلوب بروايةٍ لم تُكتَب بعد!
(ذاكرة الجسد) تُعدُّ واحدةً من أهم الروايات العربية التي استطاعت تغليف القضايا الكبرى، كالسياسة والتاريخ و، بالبعد العاطفي الإنساني، مستفيدةً من تناقضاته التي تجمع بين البساطة والتعقيد، والهدوء والاضطراب، والبعد والقرب؛ ولذلك اختيرت ضمن قائمة أفضل مئة روايةٍ عربية، كما حصلت الرواية أيضًا على جائزة نجيب محفوظ للرواية عام 1998.
قصة رواية (ذاكرة الجسد)
عبر أربعمئة صفحةٍ نعيش مع بطل الرواية خالد طوبال قصة حبِّه الجامحة، التي اجتاحته في خمسينيات عمره، فكانت له الأمل اليتيم في حياة، الجزائرية التي تُذكِّره بأمِّه التي لم يستطع يومًا أن يشفى من ألم فراقها، تعود إليه ذكرياته مع كل زيٍّ جزائري، وكل زينةٍ شعبية، ورائحة كل بخورٍ عتيق.
“كيف حدث يومًا أن وجدتُ فيكِ شبهًا بأمي، كيف تصوَّرتكِ تلبسين ثوبها العنَّابي، وتعجنين بهذه الأيدي ذات الأظافر المطلية الطويلة، تلك الكسرة التي افتقدتُ مذاقها منذ سنين.”
في العاصمة باريس جمعته الصدفة بحياة، ابنة قائده السابق في جبهة القتال، جبهة كان هو فارسها قبل أن يفقد ذراعه اليمنى، لتكون له عقدةً جديدة في حياته، تُحوِّلها إلى شكلٍ من أشكال الاجترار الدائم للأحزان، والوحدة وسط الجموع، والقبول بعلاقةٍ مفتوحة لا تُوفِّر له أيَّ شكلٍ من أشكال الانتماء مع فتاةٍ لا تُشبه فتاة أحلامه في شيء، بل تُعدُّ تحديًا صارخًا لكلِّ ما يؤمن به.
التقى بحياة فلم يتَّسع الوقت لكلِّ ما أراد قوله، لم يكُن بإمكانه أن يسرد تاريخ عمرٍ كامل في لحظة لقاءٍ عابرة، لذلك كانت مجرد بدايةٍ للقاءاتٍ أخرى، كانت فيها حياة تبكي أمامه كلما ذكر والدها، ليُؤخَذ قلبه بجمالٍ جزائري وفكرٍ مستنير، يبكيان بين يدَيه.
يُسلِّم عواطفه لأنثى تستعصي على كل راغب، تُسهِّر لياليه بشوقٍ معذب في انتظار اتصال منها لا يمتد سوى لدقائق معدودة وينتهي، جرَّب لأجل نسيانها صنوف العبادات، وأراد الانغماس من جديدٍ في رسم لوحاته، ولكن، وللمرة الأولى، وجد نفسه عاجزًا عن القيام بأيِّ شيءٍ سواها.
كان الرسم فيما مضى قادرًا على انتشاله من أقسى حالات الحزن، كتلك التي تلت فقدانه لذراعه في الحرب. لم يكُن قد جرَّب الرسم أو الكتابة قبلها، حتى أشار عليه طبيبه إلى أنَّ فيهما شفاء حزنه، وعوضه عن فقده، فاختار أن يرسم جسور قسنطينة، ويسمح لموهبته بأن توصله إلى أماكن لم يحلم بها يومًا.
ذاكرة وطنٍ بكامله
وخلال تلك القصة نستعرض تاريخ الجزائر، بمُواطنيها البسطاء، وشهدائها وأبطالها، ومُتشدديها وضباطها الفاسدين. نشاهد جسور قسنطينة وهي تمتدُّ بثباتٍ لتحفظ تاريخ الأرض، وسيرة الرجال، وقصص العُشاق.
“هناك مدن لا تختار قدرها، حكم عليها التاريخ أن لا تستسلم، لذلك لا يملك أبناؤها الخيار دائمًا.”
تُقدِّم الرواية نماذج متنوعة فيها المتحرر والمتشدد، وفيها الجيل القديم بكلِّ موروثاته التي يتمسك بها، ومُعتقداته التي يؤمن بها، والتي تتبع الأصول الإسلامية في أحيان، وتختلف عنها اختلافًا كبيرًا في أحيانٍ أخرى. وتتجلَّى اللمسات الاجتماعية في تصوير علاقة البنت بأبيها، كما في تعلُّق حياة بذكرى والدها الشهيد؛ وعلاقة الابن بأمه، كما في تعلُّق خالد طوبال بذكرى والدته، وكذلك محبة والدة حياة لولدها ناصر؛ وعلاقة الصديقَين حين تدخل إليها فتاة تهوى شبهة الحب، كما في علاقة خالد طوبال بصديقه زياد.
وتُسلِّط الرواية الضوء على حياة موظفٍ بسيط هو الأخ الشقيق لخالد طوبال، الذي يعمل معلمًا، ويعول أسرةً مُكوَّنة من زوجةٍ تقليدية مُحبِّة، تتفنَّن في صنوف الرعاية وإعداد الأطعمة، وأبناء تزداد مسؤوليتهم عامًا بعد عام. أخ يعيش في بلاده حياةً تدوس عليه كل يوم، فيختار أن يبقى بها يوم حمل الجميع حقائبهم وغادروا أرض الوطن بحثًا عن حياةٍ أفضل على كل الأصعدة، حياةٍ لا تُقدِّم بعضهم على حساب البعض الآخر، ولا تُجرِّب شراء الولاء، ولا قسرية الانتماء، بلاد تختارها فتفتح ذراعَيها لك، تُحوِّلك إلى أحد أبنائها، ولا تُفرِّق بينكم في المعاملة أبدًا.
العودة إلى قسنطينة
يعود خالد إلى قسنطينة ليُحرِّك أحزانه القديمة بحزنٍ جديد، فبعد أن قطعت حياة أخبارها دون مقدمات، تزوَّجت بضابط في الجيش الجزائري، لتكون زوجةً ثانية له، رغم الرفض الشديد الذي قابل به أخوها الأمر. تزوَّجته لتتحوَّل من مشروع إنسانةٍ وكاتبة ومناضلة، إلى زوجةٍ تُشبه كثيرًا الصورة التي كانت تكرهها من النساء.
يستعذب خالد تعذيب نفسه بتأمُّل الأمر وتخيُّل التفاصيل وسماع الأخبار، يبني طوابق متعددة من الحزن، لم تُفلح في تسلُّقها قهوة عتيقة زوجة أخيه، ولا تحية الجار الفضولية، ولا الأغاني الشعبية المنطلقة دومًا من كل مذياع.
“غادرتِ قلبي إذن كما يُغادر سائح مدينةً جاءها في زيارةٍ سياحية منظمة، كل شيءٍ موقوت فيها سلفًا، حتى ساعة الرحيل، ومحجوز فيها مُسبَقًا، حتى المعالم السياحية التي سيزورها، واسم المسرحية التي سيُشاهدها، وأسماء المحلات التي سيشتري منها هدايا للذكرى، فهل كانت رحلتك مضجرةً إلى هذا الحد؟!”
تحوَّل إلى جسرٍ آخر معلق في قسنطينة، تحجَّر مع الزمان فلم يعُد له قلب ينبض أو عين تدمع أو وطن يعود إليه. لم يعُد له سوى ذاكرةٍ واحدة هي ذاكرة جسده، الذي ضحَّى به في سبيل وطنه، فأخذ منه عمره، ولم يوِّرثه سوى ذاكرةٍ مُعذَّبة، ذاكرة الجسد، والحبيبة، والوطن.