«أُمتِّع عينيَّ من وجهها، وسمعي من حديثها، وأستُر منها ما يحرُم كشفُه إلا عند حلِّه». بهذه الكلمات وصف الأصمعي الحبَّ العذري الذي يفهمه ويُكنُّه لمحبوبته، فهو حبٌّ طاهر نقي لا تُشوِّهه الرغبات المادية، ويسمو بالمُحبِّ فوق الغرائز والشهوات. تتناول هذه المقالة مفهوم الحب العذري، وصفاته، وخصائص شعر الغزل الذي ارتبط به، وأشهر أبطاله.
ما الحب العذري؟
ينقسم الباحثون في تعريف الحب العذري إلى قسمَين؛ فمنهم من يُرجعه إلى غرضٍ من أغراض الشعر، والذي يُعرَف بالشعر العذري، نسبة إلى قبيلة (بني عُذرة) التي عاشت في الجاهلية، واتصف أبناؤها بالعشق، حتى يكاد المرء يموت حبًّا، وعُرِف شعراؤها بالشعر العذري الذي يصف لوعة الحب والشوق، دون ذكر مفاتن المحبوبة، أو التطرق إلى الرغبات المادية.
ومنهم آخرون وصفوا الحب العذري بأنه الحب النقي الطاهر، الذي تسود فيه المشاعر العفيفة بين المُحبِّين، فيقوم على حبِّ الروح والشخصية، دون الاهتمام بالمفاتن الجسدية، أو الشهوات الجنسية، التي تُميِّز الشعر الصريح، ويصف فيه الشاعر الصفات الشكلية والجسدية للمحبوبة.
وأيًّا ما كان المفهوم ونسبته، يبقى الحب العذري حبًّا للروح نقيًّا بعيدًا عن الشهوات والغرائز.
خصائص الحب العذري
قال الباحث يوسف خليفة في كتابه (الحب المثالي عند العرب) واصفًا الحب العذري: «هو حب روحي يتعلق فيه العاشق بمحبوبةٍ واحدة، يرى فيها مثله الأعلى الذي يحقق له متعة الروح، ورضا النفس، واستقرار العاطفة، وهو استقرار يجعل فتنته بواحدةٍ تقف عندها آماله، وتتحقق فيها كل أمانيه، فهي الهدف الذي يطلبه، والغاية التي يسعى إليها».
وأضاف أن «الحب العذري يتميَّز بكونه مأساةً حزينة، بدايتها أمل ونهايتها يأس، تدور أحداثها بين عاشقَين تسيطر على حبهما العفة والإخلاص والتوحيد والحرمان، فهو حب روحي عفيف طاهر، لا سلطان لشهوات الجسد أو نوازع الغريزة عليه. وليس معنى هذا أنه يلغي الجسد تمامًا، إلا أنه يضعه في موضعه المشروع، كرغبةٍ يتمنى العاشق أن تتحقق له بالزواج. وفي هذا نرى أن الحب العذري يكون صراعًا بين الجسد والروح يتحوَّل في نفس العاشق -لأسبابٍ شخصية أو اجتماعية أو – إلى رغباتٍ مكبوتة، كانت تسمو بالشاعر إلى ما فوق الغرائز والشهوات»، ولذلك يتميز الشعر العذري كله بلا استثناء بهذه المشاعر الراقية النقية.
خصائص الشعر العذري
بالإضافة إلى المشاعر الراقية التي تميزه ، هناك عدة سمات بها يتصف الشعر العذري، وهي:
- العفة في وصف المحبوبة:
- الاقتصار على محبوبةٍ واحدة:
- المأساة الشعرية:
- الإخلاص وصدق العاطفة:
- بساطة اللغة وجمالها:
- وحدة الموضوع:
أشهر شعراء الحب العذري وقصصه
هناك عدد من الشعراء الذين اشتهروا بالشعر العذري، وارتبطت أسماؤهم بالمحبوبة، وهم:
جميل بن معمر
عُرِف بجميل بثينة، نسبةً إلى قصته الشهيرة مع بثينة بنت الحباب، والتي حدثت في العصر الأموي. بدأت القصة بعراكٍ لهما، وبدلًا من أن تدوم من بعده الكراهية، نشبت بينهما قصة حبٍّ تحدثت عنها الأمم، إذ اشتد الهيام بجميل، فراح يطلب يدَ بثينة من أهلها، إلا أنَّ أهلها أبوا أن يزوجوها له، وسارعوا بتزويجها لفتى منهم، وهو نبيه بن الأسود، إلا أن ذلك الفراق لم يُغيِّر من الحب شيئًا، وكانا يتلاقيان من بعد زواجها، حتى شكا أهل بثينة وزوجها جميلَ إلى السلطان، فأهدر دمه إن رآها ثانية، ففرَّ جميل إلى ، وأقام بها لفترة من الزمن، وعندما رجع إلى موطنه وجد أن قوم بثينة رحلوا، فرحل وراءهم، ولكنه لم يستطع أن يراها بعد ذلك إلا مرة واحدة، فكتب لها متحسِّرًا:
ألا ليت أيام الصفاء جديدُ .. ودهرًا تولَّى يا بثينُ يعودُ
فنُغني كما كنا نكون وأنتم .. صديقٌ، وإذ ما تبذلين زهيدُ.
عروة بن حزام العذري
يشتهر عروة بقصته مع عفراء، ابنة عمه التي أحبها منذ الصغر، فطلبها من والدها، فحال فقر عروة وظروفه دون موافقة والدها، إذ غالى الأخير في مهرها، وطلب من عروة أن يضرب في الأرض لعلَّه يستطيع أن يجمع مهرها، فلم يتكاسل عروة وانطلق في طلب مهر محبوبته، وعندما جمع مهرها وعاد ليتزوجها، أخبره عمه أن عفراء ماتت، فتحسر عليها حتى جاءه نبأ أنها لم تمُت، بل تزوجت بغنيٍّ من أغنياء الشام بإجبارٍ من والدها، فسافر عروة إليها، وأقام عند زوجها الذي لم يكُن يعرف بقصة الحب القديمة، ولم يخبر زوجته بوصول ابن عمها، فما كان من عروة إلا أن وضع خاتمه في إناء لبن، وبعث بالإناء إلى عفراء مع جاريةٍ لها، فعرفت عفراء أن عروة ضيف زوجها فالتقيا، إلا أن عروة غادر حرصًا منه على كرامة محبوبته وسمعتها، واحترامًا لزوجها الذي أكرم ضيافته.
ومن شعر عروة في حب عفراء:
تحمّلتُ من عفراء ما ليس لي به .. ولا للجبال الراسيات يدانِ
كأنَّ قطاةً عُلِّقت بجناحها .. على كبدي من شدة الخفقانِ
قيس بن الملوح
مجنون ليلى، الذي يوصف به كل عاشق. أحب قيس بن الملوح ابنة عمه ليلى بنت المهدي، وبادلته ليلى الحب، فصار قيس يكتب فيها الشعر حتى عُرِفت قصة حبِّهما بين الناس، فغضب والدها ورفض زواجها بقيس. حزن قيس حزنًا شديدًا أدى إلى اعتلال صحته، ولم يشفق عمه عليه وزوَّج ليلى بآخر؛ فاعتزل الناس وراح يهيم في الوديان والصحاري، يبكي أيام ليلى وذكراها حتى لقَّبه الناس بالمجنون.
ومن شعر قيس الشهير في محبوبته ليلى:
أما عاهدتني يا قلب أني .. إذا ما تبتُ عن ليلى تتوبُ
فها أنا تائبٌ عن حبِّ ليلى .. فمالك كلما ذُكِرَت تذوبُ