كان إسماعيل عليه السلام شابًّا صغيرًا تركه أبوه معَ أمِّه وهو رضيع لم يُكمل عامين من عمره، تركهما في أرضٍ قاحلة لا زرع بها ولا ماء، فقط تحرسهما عناية الرحمن عز وجل. ولما بلغ الحلمَ أتاه أبوه نبيُّ الله إبراهيم عليه السلام وأبلغه أنه رأى منامًا يذبحه فيه، وأنه يرى أن الرؤية أمرٌ من السماء فكيف العمل؟ وماذا يصنع؟ {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} الصافات: 102 ، فقال له ابنه وقلبه مليء بالبِّر لأبيه وطاعته حتى وإن كانت في طاعته تلك نهايةُ حياته {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} الصافات: 102 ، ومن هنا ضرب لنا إسماعيل عليه السلام أروعَ الأمثال في البر والطاعة؛ لذلك فداه الله من فوق سبع سموات، {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} الصافات: 107 وكرمه، وجعل يومَ فدائه عيدًا للمسلمين؛ ولكن هل البر يتمثل في طاعة الوالدين فقط، أم إن هناك نواحٍ أخرى يتطلب توافقها لتحقيق معنى بر الوالدين؟
تعريف بر الوالدين
بر الوالدين، ما أعظم منزلته، كرمه الله من فوق سبع سموات؛ فجعل منزلته بعد الإيمان بالله وإفراده بالعبادة {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ، قال أحد الصالحين بر الوالدين يكون بحسن الطاعة لهما ولين الجناح وبَذل المال {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24 ، فقد وصى بهما ربُّ العزة فقال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} 8، {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} 15 .
فضل بر الوالدين
يرى أحد الصالحين أن أعظم فضل وأرفع منزلة لبر الوالدين هي أن رضا الوالدين من رضا الله وسخطَهما من سخطِه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطُ الرب في سخط الوالدين} الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم ، وقد وردت العديد من الأحاديث التي تدل على فضل بر الوالدين على ابنهما البار بهما، وهي:
- بر الوالدين سببٌ لدخول الجنة، والمحروم هو من أدرك والديه ولم ينَل هذا الشرفَ وهذه المنزلةَ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رغِم أنفُه، ثم رغِم أنفُه، ثم رغِم أنفُه}، قيل: من يا رسول الله؟ قال: {من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة} مسلم والترمذي .
- بر الوالدين مقدَّمٌ على الجهاد: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم: «هل من والديك أحد حي؟» قال: نعم بل كلاهما. قال: «فتبتغي الأجر من الله تعالى؟» قال: نعم. قال: «فارجع فأحسن صحبتهما» عليه .
- بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله عز وجل: لما ورد من حديث عبد الله بن مسعود قال: سألت النبي أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها» قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» عليه .
عاقبة عقوق الوالدين
عقوق الوالدين من التي نهانا رب العزة عنها قال {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} الإسراء: 23-24 ، وقد غلظ عقوبتها حتى صارت من أكبر الكبائر التي أخبرنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين … » عليه .
ولم يقف عقاب العاق عند الآخرة فقط؛ بل أمر الله بتشديد العقوبة فيعاقب في الدنيا والآخرة، عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل الذنوب يؤخر الله تعالى ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الموت» الطبراني ، وقد ذكر البخاريُ في مفردِه حديثًا يوافق معنى هذا الحديث وصححه الألباني.